العدد 4163 - الأربعاء 29 يناير 2014م الموافق 28 ربيع الاول 1435هـ

لحظة استغنائنا ولحظة حاجتهم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تزدحم الشوارع بالناس. أقصى ما تراه فيهم هو حركات أجسامهم. بعضهم يمشي حاملاً حاجيات بيته. وبعضهم يتحدث في هاتفه المحمول. وبعض آخر يلوذ في صمت وسكون. تظن أن الماشي على قدميه ميسور الحال وفي صحة وعافية. وتظن أن المتحدث في هاتفه يضرب موعداً لأولاده للتنزه. وتظن أن مَنْ هو صامتٌ فيهم لا هَمَّ له ولا شاغل.

والحقيقة، أن تلك الاستنتاجات ليست بالضرورة دقيقة، أو حتى صحيحة. فالأول، (ربما) لم يكن قادراً على الشراء لولا استدانته المال. والثاني (ربما) لم يكن يتحدّث في هاتفه بفاضل الكلام، بل لحجز موعد لابنه المريض جداً. والثالث (ربما) غَرِقَ في صمته لِهَوْلٍ أصابه في رزق مقطوع، أو حق منزوع. فالناس يسترهم الحياء وعدم السؤال وإخفاء الألم.
ولكي نتيقن من أن ذلك قد يحصل، علينا القياس على أنفسنا. كم من المرات التي ظهرنا فيها أمام الناس بغير هيئتنا وأحوالنا، فتضحك أفواهنا وقلوبنا تبكي. وكم من المرات التي لُذْنا فيها بصمتٍ عميق، دون أن نبوحَ بما في أنفسنا، في الوقت الذي كان الصراخ يملأ دواخلنا، والشك يختلج في صدورنا. فنحن أيضاً مثالٌ لِمن نراهم مثالاً لنا، لا فرق في ذلك.
لا يصح أن نعيش دون أن نُدرك ذلك. ولا يصح أن تمضي بنا الحياة دون أن نتحسَّس ما عند الآخرين من ألم. فَلَربما كانت ساعة زمنٍ من حياتنا تذهب في ترفٍ وضياع، في حين أن هناك مَنْ يريد منك أن تقِف إلى جانبه ساعةً لا أكثر. وربما كانت عشرة دنانير، ينفقها أحدنا على أكلٍ حتى الكفاية، في الوقت الذي يوجد فيه هناك مَنْ يطلبها لِحَدِّ الكفاف.
فلحظة الحاجة عند الفقير، توازنها لحظة الاستغناء عند الميسور، كما تساوي لحظة الموت الحياة. وعادةً ما يكون فارق اللحظة أمراً فاصلاً في حياة البشر. لذا، فهي لحظةٌ تبقى عصيَّةً على النسيان عند مَنْ وُهِبُوا فيها ما كان ضرورةً لهم كي تستمر حياتهم. فالنسيان الذي قد يُنسِينا فَقْد الأحبة، حين يتوسَّدون لحودهم، يصبح عاجزاً عن محو لحظة فعل الخير لمحتاج. فمن يتلقى إحساناً من أحد، لا يمكن للأيام أن تُنسيه ذلك.
وعندما نرجع إلى ذوق الإنسان في سمعه وقلبه وعقله، بل وفي جميع جوارحه، سنراه يستأنس ويتفكّر في الأقوال والأفعال، التي تحثّ على فعل الخير وتتندَّر به، إلى الحد الذي أصبحت فيه تلك الحوادث، وسيلةً للتذكير والتحفيز والمبادرة على تكرارها. وعندما يسمع ويرى الإنسان عكس ذلك القول والفعل، فإنه يسخط ويستهجن من أصحابها.
عندما قرّرت المليونيرة الأميركية ليونا هلمسلي وهي في العقد السابع من عمرها، تخصيص مبلغ واحد وعشرين ‬مليون دولار أميركي من ثروتها لكلبها المدلَّل، وأخرى خصّصت عشرة آلاف دولار سنوياً لمركز العناية بالحيوان في نيويورك، سَخِرَ كثيرون من ذلك العمل، كونه ضد ميزان الحياة، الذي من المفترض أن يكون أكثر عدلاً، مع وجود مليارين ونصف المليار من البشر في هذا العالَم، هم بأمسِّ الحاجة إلى أقل من دولار واحد يومياً.
لكن، عندما تبرَّع وارن بافيت، وجون بيدلي، ويو بانغلين، وبيل غيتس، وبراين بورني، وزيل كرافينسكي بثرواتهم، كلها أو نصفها أو بيْن البيْن، أصبح ذلك محل تقدير الناس. فلو كان مجموع ثرواتهم مئة مليار، فهذا يعني أنهم منحوا مئة مليون إنسان فرصة العيش بألف دولار، كُسوةً ومعاشاً ومأكلاً، أو على أقل تقدير، دعماً مؤسسياً مستداماً.
مثل هؤلاء (وغيرهم كثيرٌ بلا تسمية) عادةً ما يُغيِّرون مجرى الإنسانية. تخيَّلوا لو أن الخمسة وثمانين شخصاً في العالم اليوم، من الذين يملكون نصف ما يملكه نصف سكان العالم، مَنَحُوا ثرواتهم (أو جزءًا منها) إلى فقراء الكون تُرى ماذا سيحدث؟ بالتأكيد ستقل مآسي البشرية، وستقل أمراضهم وسيزداد متوسط أعمارهم. هذه حقيقة.
ربما يعتقد البعض ومن دون وعي مقصود، أن الخطأ أو الذنب هو فقط في تركِ واجبٍ فرائضي، في حين أن الأمر أوسع من ذلك بكثير. فجعل المال والوقت في غير مكانه هو ضد الصواب، المستلزم المعاقبة والتأنيب. فهو عملٌ يجر حتماً إلى زللٍ في مكان ما. سرقة أو فساد سلوك، وضياع النموذج، خصوصاً إذا كان الأمر متعلقاً برأس القوم وزعامتهم.
أتذكر هنا روايةً ذُكِرَت في كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، أن جحظة البرمكي قال: أمرَ المعتمد للمُغنِّية شارية بألفِ ثوبٍ من جميع أصنافِ الثياب الخاصة، فحُمِلَت إليها. فقال لي علي بن يحي المُنَجِّم: اجعل انصرافك معي ففعلت.
فقال لي: هل بَلَغَكَ أن خليفةً أمَرَ لمُغنِّية بِمثلِ ما أمَرَ به أمير المؤمنين لشارية؟ قلت: لا.
فأمَرَ بإخراجِ سِيَر الخلفاء، فأقبَل الغُلمانُ يحملونها في دفاتر عِظام، فتصفحناها فما وَجَدنا أحداً قبله فَعَلَ ذلك.
غاية الأمر ومنتهاه، هو الشعور بالمسئولية والإحساس بها. وكما قال الزعيم المغربي الكبير محمد بن عبد الكريم الخطابي (1882-1963) وهو قائد ثورة الريف بالشمال الإفريقي، والمناضل ضد الاحتلاليْن الأسباني والفرنسي، بأن «عدم الإحساس بالمسئولية هو السبب في الفشل، فكل واحد ينتظر أن يبدأ غيره». وربما في كل تلك الساعات التي نقضيها في انتظار غيرنا كي ينهض بالحِمل، يموت خلق كثير، والسبب نحن بالتأكيد.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4163 - الأربعاء 29 يناير 2014م الموافق 28 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 5:13 ص

      عدم الإحساس بالمسئولية

      تخصيص مبلغ من ثروتها لكلبها المدلَّل، وأخرى خصّصت عشرة آلاف دولار سنوياً لمركز العناية بالحيوان في نيويورك=مرض
      تبرَّع وارن بافيت، .......... وزيل كرافينسكي بثرواتهم، كلها أو نصفها= الشعور بالمسئولية والإحساس بها

    • زائر 3 | 3:11 ص

      أحسنت

      صدقت كم هناك محتاج يمنعه الحياء وكم غني يفكر بأن الجميع أغنياء

    • زائر 2 | 1:57 ص

      هموم لا حصر لها

      صدور الناس بها الكثير من الآلام التي لا يعرف عنها سوى الله سبحانه

    • زائر 1 | 12:52 ص

      آيات التصدق

      وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة وان تصدقوا خير لكم ان كنتم تعلمون
      فاوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزي المتصدقين
      فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون
      والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات
      نحن خلقناكم فلولا تصدقون

اقرأ ايضاً