العدد 4167 - الأحد 02 فبراير 2014م الموافق 02 ربيع الثاني 1435هـ

الشتيمة المستأجرة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كَتَبَ الأستاذ خالد القشطيني شيئاً عَجَباً. فقد ذكر بأن شاباً إفريقياً اعتاد أن يأتي إلى منتزه هايد بارك الشهير في لندن، ويبدأ في سب أعلى شخصيات بريطانيا. ولأنه كان جاذباً للكثير من المارة والسُّواح، فقد قامت الحكومة البريطانية بتخصيص راتبٍ له «لأنه أصبح من عناصر تشجيع السياحة لبريطانيا»، وخصوصاً الأميركان والروس والعرب.

ويضيف القشطيني بأن ذلك الرجل الإفريقي، كان يقبض راتباً محترماً من وزارة السياحة البريطانية، التي كانت تحاسبه على ساعات عمله في منتزه هايد بارك. فإذا مَرِضَ «بالتهاب اللوزتين، أو أي مرض، ولم يستطع الكلام، فعليه تقديم تقرير طبي عن غيابه ومدة عجزه عن الشتم، وإلاَّ خصموا من أجره عن مدة سكوته». انتهى.

هذه الحادثة، تمثل في حدِّ ذاتها أضحوكة بالنسبة للكثيرين. حكومة تدفع لشخص يشتمها راتباً شهرياً! ليس ذلك فحسب، بل وتُلزِمه بذلك أيضاً! ثم تجعله علامةً من علاماتها السياحية! وربما كان عَجَبُ الكثيرين من ذلك، نابعاً من كونهم لم يتعوّدوا في بلدانهم «ذات الأنظمة السياسية القمعية» أن يروا مثل هذا الأمر، فاعتبروه «شيئاً إِمْراً».

أقصى ما كانوا يرونه، مع تلك الأنظمة «القمعية» هو عكس ذلك تماماً. وفي أحيان أخرى (وهي كثيرة) تتبلور الشتيمة أمامهم، حين تقوم هذه الأنظمة باستئجار أقلام وألسن كأدوات للشتيمة، فيتم توظيفها لتشويه وضرب شخصيات بعينها، أو جماعات سياسية أو دينية، بل وحتى شتم طوائف وأعراق بتمامها دون حياء ولا خجل.

وهو أدنى مراتب الشتيمة (هذا إذا اعتبرنا أن للشتيمة منازل وتفاضل وليست كمّاً أسْوَد برُمَّتِه)، وأكثر وضاعة، كون تلك الأقلام والألسن تستأكِل بشتيمتها ضد بني جلدتها، وضد قوى اجتماعية، لها من الاعتبار والترميز والكَيْنَنَة، ما يجعل التحرش بها مدعاةً للاقتتال والفتنة.

وربما كانت هذه الأقلام والألسن، وما تنفثه من سموم، وما تسببه من احتراب داخلي، إحدى أهم الجرائم المنظورة أمام محاكم الدول الراشدة، بل وحتى أمام المحاكم الدولية المعروفة. وقد ذكرنا سابقاً، كيف أن قضاة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي قد وجَّهوا تهماً للمذيع الكيني جوشوا أراب سانغ، تحت عنوان «ارتكاب جرائم ضد الإنسانية».

ولنا أن نتخيّل هنا، كيف ساوَت المحكمة بين جرائم هذا المذيع، ولسانه التحريضي، بما اتُهِمَ به نائب رئيس الوزراء أوهورو كينياتا، ووزير التعليم العالي السابق وليام روتو، ووزير المالية فرانسيس موثاورا، وما ارتكبوه من جرائم بعيد الانتخابات الكينية العام 2007، بحكم مناصبهم السياسية حين استَعَرَت أعمالُ عنفٍ دموية، أفضت إلى شرخ واقتتال أهلي، راح ضحيته أكثر من 1200 قتيل، و300 ألف مُهجَّر.

هذا الأمر خطير، ويجب أن لا يغيب عن أعين الحكومات القمعية، ولا عن أذهان الأقلام المأجورة، والتيقظ إلى أن ما يفعلونه، هو جُرمٌ بيِّنٌ سيُحاسَبون عليه حتماً، وعليهم أن يُدركوا، بأن دفع الناس إلى الاقتتال عبر أدوات رخيصة، لا يُعَد بطولةً ولا إنجازاً، وإلاَّ اعتَبَر التاريخ أن ما قام به نيرون في روما هو إنجاز وطني بدفعه الوثنيين والمسيحيين للاقتتال.

فخطورة مثل هذه المعارك، أنها لا تنتهي بإراقة الدم، بل بزراعة الرغبة الدائمة في سفكه. ربما لا تظهر تلك الرغبة مع خَبِبِ الخيول، وأصوات المعارك، لكنها تختبئ بين تشققات النفوس والمشاعر، يدفعها كل حين، تبدُّل ميزان القوى الهشّ، الذي كلما مالَ إلى جانب، تغالبَ أصحابه على غرمائهم، لتبقى المعركة مستمرة، والدماء مسفوحة.

يخطئ أولئك المحرّضون وأدواتهم، من أن وسيلتهم قادرةٌ على قهر خصومهم أو حَسْرِهِم بهذه الطريقة المُدمِّرة لمجتمعاتهم (وليس لخصومهم). وحَرِيٌّ بهم أن يتساءلوا، إن كانت محاولات مَنْ سبقوهم قد نَجَحَت في الغلبة، على مَنْ هم أقل منهم عدداً وقوة: التحريض على سيرفيه، ونشاطات كالفن، والحرب التشويهية ضد الجماعات السياسية والدينية والفكرية التي لم تكن تضم سوى آحادٍ من الناس. كل ذلك لم يُجدِ نفعاً.

الشتيمة والتحريض على الناس لجرهم إلى التنازع ليسا من شِيَم الرجال ولا أصحاب العقول الراجحة. وكم كان الحثُّ من شرائع السماء والأرض، على وجوب تجنب ذلك، كونه يُفضي إلى الوقيعة والخصام، وتفتيت الشعوب، واستعار الحروب بين الأديان والمِلَل.

أُنهِي هذه المقالة، بما ذكره ابن خلكان صاحب كتاب «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» من حكاية جميلة لها صلة بما ذكرناه، وهي تفيد بأن الخليفة الأموي، هشام بن عبدالملك بَعَثَ إلى سليمان الأعمَش (وهو أحد كبار علماء المسلمين)، أن يكتبَ له مناقبَ الخليفة عثمان ومساوئ الإمام علي. فأخذَ الأعمَشُ القرطاسَ وأدخَلهُ في فَمِ الشاةِ فلاكَتها، ثم قال لمُوفَدِ هشام: قُل له هذا جوابُك.

فقال المُوفَد: إنه قد آلَى أن يقتلَنِي (أي هشام بن عبد الملك) إن لَمْ آتِهِ بجوابِك. وتدخَّل بعضُ الحاضرينَ فقالوا: يا أبا محمد... افتَدِهِ من القتل. فلما ألحُّوا عليه كتبَ: «أما بعد يا أمير المؤمنين... فلو كانت لعثمان مناقِبُ أهلِ الأرضِ ما نَفَعَتك، ولو كانت لعليٍّ مساوئ أهلِ الأرضِ ما ضَرَّتك، فعليكَ بِخُوَيْصَةِ نفسِكَ والسلام».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4167 - الأحد 02 فبراير 2014م الموافق 02 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 10:06 ص

      شدعوه

      الحين من يحسد من احنه نتكلم عن قضية جوهريه من قضايا البحرين الي السلطة ما حاسبا ناسً تصرفو تصرف شخصي من سب وشتم بالعلن اذا محد حاسبات وين العبره والدليل قاعدين يواصلون بالسب والشتم بسبب محد وقف وحاسبهم وول اخذ تكلم عنهم وجنه مو صاير شي

    • زائر 12 | 6:19 ص

      ان يحسدوك على علاك

      فانما متسا---- الدرجات يحسد من علا ------النار تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله --هذا الكاتب بأخ بلبي اتشوق لكتاباتك وزميلك مالك ----

    • زائر 10 | 5:17 ص

      محد يذكر شي

      انشغلت الاعلام والصحافة في أمور ما تخصنه ولاسباب ما نعرف شنو اهي الكتاب صارو بس يكتبون عن تجارب الشعوب والدول الغربية !!
      محد يذكر ان الي يصير في البحرين يعتبر واقع مرير يمرون فيه البحرينيين وللاسف كل كاتب ومثقف يعرف عن هالشي لكن لا وقتهم وجهدهم يخلونها للدول العربيه والي تصير في الدول الغربيه !!

    • زائر 9 | 3:55 ص

      واعجباه

      في إيطاليا غمزوا لسيدة بسبب لونها قامت الدنيا ولم تقعد وهنا يصروح علنا بشتم جموع من الناس ولا أحد يستتنكر

    • زائر 11 زائر 9 | 5:21 ص

      ياصديقي ايطاليا غير وبلادنا العربيه غير

      وش جاب لجاب لاوجه للمقارنه اسمح لي يمكن تقارن البحرين بالصومال في تطبيق القوانين اقولك انت صح .

    • زائر 6 | 3:12 ص

      اقلام ماجوره

      جفنة اصحاب أقلام مأجورة في البحرين ما تمت محاسبتهم ليش؟؟
      ول احد تكلم عنهم لا في تلفزيون ول صحف وللحين ناسبهم في مشوارهم سب وبث فتنه واخرتهه في مسجد عل منبر

    • زائر 7 | 3:12 ص

      اقلام ماجوره

      جفنة اصحاب أقلام مأجورة في البحرين ما تمت محاسبتهم ليش؟؟
      ول احد تكلم عنهم لا في تلفزيون ول صحف وللحين ناسبهم في مشوارهم سب وبث فتنه واخرتهه في مسجد عل منبر

    • زائر 5 | 3:04 ص

      والسب في البحرين

      ما تكلمت عن سب طائفة في البحرين من منبر مسجد!!
      واذا كأننا ناس تدفع لناس عشان نسب وتشتم الي صار في البحرين من سب وشتم ليش مافي حساب لهم؟؟ هل في لاحد دافع لهم بعد ؟؟ ما نجوف احد حاسب الي يسبون في المنابر والمجالس والسب علني!!!

    • زائر 4 | 1:03 ص

      وظائف السبّابين والشتامين في البحرين كثيرة ومؤهلها بسيط جدا

      مؤهل وظيفة السبّ والشتم لهذا الشعب مؤهلها الوحيد هو فقط ان يكون الانسان بلا ضمير وكفى
      ان يصبح الانسان بلا ضمير هو المؤهل المطلوب لهذه الوظائف التي كثرت في بلدنا واصبح السبّ فينا والشتم ليل نهار

    • زائر 3 | 11:44 م

      متابع دائم

      مقالك رائع اخ محمد ودائما ما يخرج القارئ بشيء مفيد في اللغة والمعلومة والفكرة

    • زائر 2 | 10:38 م

      الاح محمد

      كثير من السواح يروحون شارع البديع لمشاهده الكر والفر ويستمتعون بذلك

اقرأ ايضاً