العدد 4178 - الخميس 13 فبراير 2014م الموافق 13 ربيع الثاني 1435هـ

إبداع في تفجير الثورات واستمرارها

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

ما لم يعِ مواطنو المجتمعات العربية، الراغبون والمناضلون من أجل الانتقال من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة ديمقراطية... ما لم يعوا أهمية وحساسية وتعقيدات مرحلة الانتقال تلك فإنّ العديد من ثورات وحراكات الربيع العربي إمّا ستدخل نفسها في فوضى مأساوية دامية تدمَّر المجتمع، أو ستنتهي إلى التَّيهان والضياع وبالتالي الفشل.

ولا يحتاج الإنسان إلى كثير من الجهد ليرى كلا المشهدين ماثلين حالياً بقوة في أرجاء أرض العرب. وأمثلة الانتقال السلمي العقلاني المتسامح المؤمن بالأخذ والعطاء لتجنُّب الخراب والدّماء، ماثلة للإستفادة من أساليبها وتطبيقاتها. ففي إيرلندا الشمالية قبلت التضحية بمبدأ الأغلبية الديمقراطية من أجل استتباب السلام بين الطائفتين المتناحرتين. وفي أفريقيا الجنوبية قبل المواطنون السُّود تأجيل مبدأ صوت واحد لكل مواطن من أجل الخروج من صراع عرقي مقيت، وعدم هروب أموال البيض الاستثمارية إلى الخارج، وأُخذ بمبدأ اعتراف الظالمين السّابقين بديلاً عن محاكمتهم المليئة بالأخطار. وفي إسبانيا وتشيلي قدّمت سلامة كيان الجمهوريتين على مبدأ الثأر من الظالمين السّابقين.

تفاصيل مناقشات وتبريرات ونتائج تلك المساومات من أجل فترة انتقالية سلمية هادئة، منشورةٌ لمن يريد قراءتها، لكن من المهم معرفة أن تلك التنازلات والحلول الوسط لم تعنِ التنازل في المستقبل المنظور عن الرجوع إلى الأسس الديمقراطية المعروفة وتطبيقها في حينها. لقد كانت تضحيات وتنازلات مؤقّتة من أجل فترة انتقالية متسامحة متوازنة غير دموية وغير عبثية.

على ضوء تلك التجارب وإعجاباً بمنطلقاتها العقلانية المتوازنة، المدركة لأهمية الأولويات، لا يستطيع الإنسان إلا أن يحيّي ويرحّب بالتجربة التونسية العربية وهي تبدع مختلف الأساليب لنقل القطر التونسي من جحيم الاستبداد السابق إلى رحب الديمقراطية في المستقبل المنظور. لقد فضّل شعب تونس وساسته ومؤسساته المدنية، إبّان الفترة الانتقالية سيادة مبادئ السلم الأهلي وتوازن المصالح والتعامل العقلاني مع إشكالات الواقع والتأجيل المؤقت لبعض المبادئ الديمقراطية، وذلك من أجل الانتقال السلمي لثورتهم المبهرة المباركة إلى برّ الأمان.

كما لا يستطيع الإنسان إلا أن يأسف، بألمٍ وحيرةٍ وإشفاق، لوقوع البعض الآخر في شباك مشاعر الثأر والانتقام الفجَّة وأساليب تهميش واستئصال هذه الجماعة أو تلك. والنتيجة هي تلك المشاهد العبثية الطفولية الدامية المدمّرة للحاضر والمهدّدة للمستقبل، التي نشاهدها يومياً في هذا القطر العربي أو ذاك.

لماذا يختلف المشهد التونسي، على الأقل في الحاضر، عن بقية المشاهد؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة غير متعجلة ومدروسة بتأنٍّ وموضوعية. وكما أصبحت إيرلندا الشمالية وأفريقيا الجنوبية وإسبانيا وتشيلي مصادر دروس وعبر، فإن تونس مرشّحةٌ لأن تكون مثالاً عربياً لأمة العرب وللعالم.

في اعتقادي أننا سنكتشف جوانب إيجابية ودروساً مفيدة في تحليل المزاج السياسي التونسي، في نضج مؤسسات المجتمع المدني التي قامت في المجتمع التونسي على الرغم من الاحتلال الاستعماري والإستبداد المحلي؛ في تأثيرات الجاليات التونسية القاطنة بلدان أوروبا ذات الأمزجة الديمقراطية على المواطن التونسي وفضائه العام؛ في مكانة المرأة التونسية في الفضاء العام، وقد يكون في الأنظمة التعليمية والنقابية والإعلامية والفقهية والفكرية وغيرها.

المهم أننا أمام حالة عربية تستحق أن تُدرس، والمهم أن لا يمنعنا صغر حجم تونس الجغرافي والسكاني أو محدودية تأثيرها في المجال القومي أو هدوء جبهتها الإعلامية، من الإقدام على تلك الدراسة وتقديمها كإحدى الصور الاجتماعية العربية المبهرة. وهذا لن يبخس الآخرين ولن يقلّل من مكانتهم في حقول حياتية كثيرة، ولن ينسينا الإنجازات الرائعة في قيادة هذه الأمة التي حققتها بعض الأقطار العربية الأخرى عبر التاريخ.

من الضروري التأكيد على أن التعامل مع الفترة الانتقالية بتلك الأشكال المتنوعة، من أجل الحفاظ على السِلم الأهلي أو على كيان الدولة أو على تجنّب الدخول في جحيم الثارات والانتقامات المتبادلة، أو على تجنّب حدوث أضرار اقتصادية جسيمة... إن ذلك التعامل لا يعني على الإطلاق التنازل عن أهداف الثورات والحراكات الحقوقية والديمقراطية والمعيشية، فتلك أهداف مقدّسة يجب أن تتحقّق كاملةً حين وصول الثورات والحراكات إلى برّ الأمان. وهذا في اعتقادي ما تحاول أن تفعله ثورة تونس المباركة.

لقد ضربت تونس المثل المبهر في تفجير ثورات الربيع العربي، وفي ابتداع أسلوبٍ معقولٍ لانتقال الثورات إلى برّ الأمان. تحيَّةً إلى شعب تونس الذي خدم ويخدم ربيع أمته العربية بأساليب حضارية إنسانية.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4178 - الخميس 13 فبراير 2014م الموافق 13 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 1:27 م

      ثورة ثورة حتى النصر

      تحية وإجلال لشعب البحرين المسالم، والصابر على ما ابتلي به!

    • زائر 10 | 5:48 ص

      الصدام قادم

      ما حدث من قبل حزب النهضة ممثل التيار الإسلامي في تونس من التعاون مع الاتجاهات السياسية المختلفة ومحاولة استيعابها لم يكن عن قناعة بالتوافق المجتمعي أو الشراكة السياسية ،بل بسبب ما حاق باخوانه في مصر حينما ارادوا اختطاف المجتمع وسرقة الثورة . فكر براجماتي بامتياز . الفرق فقط بين ذكاء الغنوشي وغباء بديع . لكن المؤكد ان الصدام بين التيارين الاسلامي والليبرالي قادم في تونس لا محالة و سينال الغنوشي وجماعته ذات المصير. انها مسالة وقت فقط.

    • زائر 8 | 3:53 ص

      اليس من الجدير بجميع دول الخليج التخلي عن الإتفاقياقيات الباطله؟

      يقال طالب الأمريكان بالدمقراطيه في العراق وقتلوا شرطي المنطقه أي صدام التكريتي بعد رحيل شاه إيران! فيقال هنا ديمقراطية الغرب غريبه بالقوه يفرضونها ويخربون ولا يصلحون ما أفسودا ولكن يفتخر البعض بالعلاقات المقامه مع دول حلف شمال الأطلسي. قال قرعويه هذا يعني بعض الناس رافضين التخلي عن كذب دول الغرب بأن لديها مصالح – يعني البترول والغاز الطبيعي ليش محتكر من قبل الدول الغربيه ....

    • زائر 6 | 1:08 ص

      العدالة الاجتماعية واحترام الآخر والاعتراف بحقوق الآخرين ومن غير مماطلة او تزييف

      كما لا يستطيع الإنسان إلا أن يأسف، بألمٍ وحيرةٍ وإشفاق، لوقوع البعض الآخر في شباك مشاعر الثأر والانتقام الفجَّة وأساليب تهميش واستئصال هذه الجماعة أو تلك. والنتيجة هي تلك المشاهد العبثية الطفولية الدامية المدمّرة للحاضر والمهدّدة للمستقبل

    • زائر 5 | 1:05 ص

      بهلول

      تتمة ...
      ولقد سقط أخلاقياً ومن عيون الناس قبل سقوطه عن الكرسي

    • زائر 4 | 1:03 ص

      بهلول

      "زين العابدين بنعلي" لو
      لو لم يكن مغروراً بقواته الأمنية والعسكرية والاستخباراتية
      لو أنصت لمطالب شعبه المشروعة وعمل باخلاص لتحقيقها
      لو لم يستمع لشيطان الأنانية والمصالح الشخصية
      لو قال لشعبه أنتم على حق وأنا أعتذر ورحل في وقت مناسب
      لو لم يكذب الكذبة ويصدقها ، كذبة أنه هو الوطن والآخرون "عملاء" خونة
      -
      لكان فعلاً زين العابدين لله الحق العدل ، ولأصبح في قلوب شعبه ولهتفوا له بدل أن تتعالى هتافاتهم ليل نهار

    • زائر 3 | 12:59 ص

      المحتار الثقفي

      سلمت يداك يا دكتور على هذه الافاضة في الشرح ‏....‏ اعتقد ان البحرينيين مستعدين لتقد مثل التضحيات التونسية

    • زائر 2 | 10:44 م

      أحسنت

      نعم الكلام وجمعيات المعارضة البحرينية ليست أقل وعيا من تونس بل أكدت في وثيقة المنامة استعدادها لجدولة التحول الديمقراطي لكن ما يجري لدينا مختلف كليا فالنظام لا يريد أن يسلم الشعب ديمقراطيا حتى مؤسسات الشباب والرياضة!!

    • زائر 1 | 10:28 م

      في البحرين نحتاج لحل سياسي

      على السلطة ان تستجيب لأن الكرة في ملعبها والتعنت راح يجلب للبلد الويلات إما القبضة الأمنية
      لافادة الشاه وصدام والقذافي وإن عولة على داعش ايضارهي خسرانة.

اقرأ ايضاً