العدد 4227 - الخميس 03 أبريل 2014م الموافق 03 جمادى الآخرة 1435هـ

سورية... الجفاف والسنوات العجاف

الأسباب البيئية للنزاع

أثار ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز جدلاً في كلمة ألقاها أمام المنتدى الاقتصادي الإسلامي العالمي في لندن نهاية (أكتوبر / شهر تشرين الأول 2013)، حين حذّر من أن تدهور الموارد الطبيعية وعدم إدارتها على أساس مستدام يمكن أن يسببا تأثيرات مباشرة على الأمن الغذائي وأمن الطاقة.

واعتبر أن «الصراع المأساوي في سورية هو مثال واضح ومخيف على ذلك، حيث ساهم الجفاف الشديد خلال السنوات السبع الماضية في تدمير الاقتصاد الريفي ودفع الكثير من المزارعين خارج حقولهم إلى المدن، التي تعاني أصلاً من نقص في إمدادات الطعام».

في هذا التحقيق، الذي أعدته مجموعة من الباحثين والخبراء لمجلة «البيئة والتنمية»، محاولة للإجابة عن مجموعة الأسئلة الآتية: ما هي العلاقة بين تغيّر المناخ والصراعات المسلحة؟ كيف ينسجم ذلك مع الحالة السورية؟، هل الجفاف الذي أصاب سورية في السنوات الأخيرة كان تغيراً مناخيّاً بفعل الإنسان أم مجرد ظاهرة طبيعية متكررة؟، من التالي؟، وهو متابعة لتحقيق نشر في «البيئة والتنمية» و»الحياة» في (أبريل / نيسان 2013) عن «الأسباب البيئية للربيع العربي».

بيّنت الورقة العلمية التي أعدتها مجموعة من الباحثين بتكليف من البنك الدولي العام 2008، بعنوان: «مضاعفات التغيّر المناخي على الصراع المسلّح»، أن التغيّر المناخي قد يزيد من مخاطر حصول الصراع المسلح في ظل مجموعة من الظروف وبالتفاعل مع عوامل سياسية اجتماعية عديدة.

قد يؤدي التدهور المستمر للموارد إلى البطالة وقلّة الأرزاق وتراجع النشاط الاقتصادي، وهذه كلها تؤدي إلى تراجع الدخل الوطني. كما أن ازدياد المنافسة على الموارد المتبقية ضمن المجتمعات المتنوعة قد يجتذب النخب الانتهازية، الأمر الذي يؤدي إلى «التشظّي المجتمعي» وبشكل خاص على مستوى الهوية العرقية أو الطائفية، ويجعل المجتمع أكثر قابلية للتطرف.

ومن شأن تناقص الدخل الوطني أن يعوق توفير المنتجات والخدمات العامة، ما يتسبب في اهتزاز الشرعية السياسية وصعود نجم المعارضين. وفي المقابل، فإن أي جهود لمكافحة التغيّر المناخي أو إزالة نتائجه قد تكون لها آثار جانبية سلبية تزيد من التوترات والخلافات، وهذا قد يجعل من قضية التغيّر المناخي نقطة ارتكاز لأصحاب الأجندات الخفية.

إضافة إلى ما سبق، فإن الظروف البيئية القاسية قد تجبر الناس على الهجرة بأعداد كبيرة، ما يؤدي إلى ازدياد الضغط البيئي على المناطق المضيفة وازدياد احتمالات التطرف والأحقاد العرقية أو الطائفية.

تستطيع المجتمعات المتقدمة اقتصاديّاً والمستقرة سياسيّاً التعامل مع المتغيّرات البيئية القاسية والتكيّف معها، على عكس المجتمعات الأخرى التي تتهددها عوامل صراع أخرى مثل طبيعة المجتمع الشابة وغياب الحكم الرشيد وارتفاع عدد السكان وتباين عاداتهم وعدم المساواة المجتمعية والجوار السيئ ووجود تاريخ سابق للعنف في المجتمع.

إن أي شخص متابع عن قرب إلى الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، وخصوصاً خلال السنوات الخمس التي سبقت بداية الحراك الشعبي في مارس / آذار، يمكنه أن يُسقط هذه الظروف على المسارات المحتملة لنشوء الصراعات المسلحة نتيجة التغيّر المناخي، ليصل إلى النتيجة الحتمية التي تشهدها سورية حاليّاً.

الجفاف الكارثي

تعرّضت سورية اعتباراً من العام 2007 لأسوأ موجة جفاف تشهدها البلاد منذ العام 1902. وبلغ الجفاف ذروته في شتاء 2007-2008 حين تراجعت معدلات الهطول المطري وتناقصت الموارد المائية السطحية والجوفية، إضافة إلى هبوب العواصف الرملية وارتفاع درجات الحرارة صيفاً بشكل كبير ما تسبب في خسارة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية.

كارثة الجفاف التي أصابت المناطق الشرقية من البلاد بشكل خاص، ولا سيما محافظة الحسكة ذات التركيبة الديموغرافية والطائفية المتنوعة، أثّرت على نحو 1.3 مليون شخص من أصل 20.5 مليون نسمة هم عدد سكان سورية العام 2008، يُضاف إليهم نحو 1.5 مليون لاجئ عراقي.

وأشارت تقديرات الحكومة السورية وبعثة تقييم الاحتياجات الموفدة من الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 800 ألف شخص من الذين تأثروا بالجفاف فقدوا معظم مصادر دخلهم وهم يعيشون في ضنك شديد. لقد أدّى الجفاف إلى هجرة ما بين 40 و60 ألف أسرة من أراضيهم إلى ضواحي المدن الكبرى مثل دمشق وحلب بعد أن فقدوا معظم أرزاقهم.

وترافق هذا الجفاف مع تراجع العوائد النفطية، حيث تحوّلت سورية منذ العام 2007 إلى مستوردٍ صافٍ للمشتقات النفطية بينما كانت أسعار النفط العالمية في أوج ارتفاعها.

الهجرة الداخلية بسبب الجفاف، ونزوح اللاجئين نتيجة الحرب في العراق، وارتفاع فاتورة الطاقة، شكلت ضغطاً على الاقتصاد الوطني، فوصل معدّل التضخّم العام 2008 إلى 15.2 في المئة، وهو أعلى مستوى تشهده البلاد منذ 1994. وأسفر ارتفاع معدل التضخّم في سورية مع الزيادات غير المسبوقة في أسعار العقارات نتيجة ارتفاع الطلب عليها إلى ارتفاع عام في الأسعار وتراجع القوة الشرائية للمواطنين.

أزمة الرغيف

أدّت هذه الأوضاع إلى الإضرار بأمن سورية الغذائي الذي كانت تفاخر به لسنوات طوال، حيث كانت بين قلّة من الدول المكتفية ذاتيّاً بمحصولها من القمح لأكثر من عشرين عاماً مضت، فإذا بالجفاف يضرب ثلاثة أرباع الأراضي المنتجة للقمح في سورية، ما جعل حصاد العام 2008 منخفضاً بمقدار 38 في المئة عن حصاد العام 2007.

من ناحية أخرى، فإن انفتاح السوق السورية على المنتجات التركية والعربية والصينية بشكل غير مدروس أضرّ بالصناعات المحلية، وخصوصاً الصناعات النسيجية والغذائية والمفروشات، وتسبب ذلك في تراجع فرص العمل واستنزاف النقد الأجنبي.

عند هذه المرحلة بدأت العوامل السياسية الاجتماعية بالتفاعل فيما بينها. فمع تراجع الدخل الوطني وضعف الإدارة، لم تعد الحكومة السورية قادرة على الإيفاء بواجباتها أمام المواطنين. فبدأت الأزمات بالظهور الواحدة تلو الأخرى. وكان أولها صعوبات الحصول على رغيف الخبز، ثم تفاقمت المشاكل مع أزمات المازوت (الديزل) والكهرباء والغاز والسكن وارتفاع الأسعار عموماً.

قامت الحكومة، تحت غطاء «التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي»، برفع الدعم الحكومي عن الوقود بهدف إعادة توزيع الدعم على الفئات الأكثر فقراً، بحسب التصريحات الرسمية. لكنها فعليّاً كانت تسعى إلى تغطية العجز المالي المتصاعد نتيجة استيراد المشتقات النفطية. وجاءت هذه المعالجة بنتائج خطيرة للغاية، فقد زادت من ارتفاع الأسعار على المواطن البسيط نظراً إلى العلاقة الطردية بين أسعار المشتقات النفطية وتكاليف النقل والإنتاج الزراعي والصناعي. وبنتيجة ارتفاع التكاليف فقدت الصناعة السورية ميزة التنافسية أمام البضائع المستوردة، وارتفعت معدلات البطالة إلى حدود غير مسبوقة.

مع ظهور هذه الأزمات، بدأت «النخب الانتهازية» في استغلال حاجات المواطن المتزايدة، وانتشرت ظاهرة التهريب على نطاق واسع. ومع تفشي البطالة وانقطاع الأرزاق وارتفاع الأسعار ازداد الفساد وتفاقمت الرشوة، وأخذت الفوارق الطبقية في التعمق، وازداد الإحساس بغياب العدالة الاجتماعية.

في مجتمع يتكوّن معظمه من الشباب المتحمّس الذي لا يجد فرص عمل لائقة، ومع استشراء الفساد، في بلد يشتهر بتنوعه العرقي والطائفي، كان تفجّر الأوضاع في سورية مسألة وقت لا أكثر.

زوال الاستقرار كان متوقعاً

قبل 28 شهراً من تفجّر الحراك الشعبي في سورية، وفي برقية سريّة عاجلة وجّهتها السفارة الأميركية في دمشق إلى وزارة الخارجية الأميركية وعدد من البعثات الديبلوماسية ووكالات الأمن الوطني والاستخبارات العسكرية والمركزية بتاريخ (26 نوفمبر / تشرين الثاني 2008)، أشارت إلى توقعات ممثل منظمة الأغذية والزراعة (فاو) عبدالله بن طاهر يحيى بحصول هجرة جماعية من المناطق الشمالية الشرقية التي يضربها الجفاف في سورية، ما قد يضاعف الضغوط الاجتماعية والاقتصادية القائمة ويؤدي إلى تقويض استقرار البلاد.

تضمّنت البرقية التي تم نشرها ضمن تسريبات ويكيليكس تحت رقم 08DAMASCUS847 معلومات موجزة عن «النداء حول الجفاف في سورية 2008» الذي أطلقه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية بهدف جمع مساعدات لدعم المتضررين من آثار الجفاف.

تحت فقرة في البرقية بعنوان: «احتمال حصول دمار اجتماعي وفقدان الاستقرار السياسي»، أشارت السفارة إلى تصريح وزير الزراعة السوري عادل سفر أمام ممثلي الأمم المتحدة بأن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للجفاف «تفوق قدرة الدولة على التعامل معها».

وأوردت البرقية توصيف ممثل «الفاو» للوضع على أنه «العاصفة الكاملة» التي اجتمعت فيها ظروف الجفاف مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية مما قد يؤدي إلى تقويض الاستقرار في سورية».

وقال يحيى في لقائه مع مستشار وزير الزراعة الأميركي إن الأمم المتحدة من خلال إطلاقها هذا النداء «تحاول أن تتصدى للدمار الاجتماعي الذي قد يترافق مع تآكل الصناعة الزراعية في الريف السوري. إن هذا الدمار الاجتماعي قد يؤدي إلى فقدان الاستقرار السياسي».

لم يكن عبدالله يحيى هو الوحيد الذي توقع أن يؤدي الجفاف إلى حصول دمار اجتماعي وفقدان للاستقرار السياسي في سورية. فقد نشرت صحيفة «فاينانشال تايمز» في (3 فبراير / شباط 2010) تحقيقاً بعنوان: «سورية قلقة من حصاد سيئ بسبب الجفاف» أعدّه أندرو إنغلاند عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الجفاف. وتضمّن التقرير لقاءات مع عدد من المزارعين والخبراء، منهم عبدالله يحيى والخبير الاقتصادي السوري نبيل سكّر.

وجاء في تحقيق إنغلاند: «لعبت فترات الجفاف بالفعل دوراً في خلق المتاعب السياسية في سورية. ويعيد نبيل سكّر إلى الأذهان أن الجفاف عمّ في أواخر الخمسينات عندما كانت القومية العربية تمرّ بأوج ازدهارها وانضمّت سورية إلى مصر لتشكّلا الجمهورية العربية المتحدة. لكن الوحدة بينهما استمرت من 1958 إلى 1961 لتدخل سورية في فترة عدم استقرار.

يعتبر سكّر أن الجفاف والمتاعب الاقتصادية التي نتجت عنه ربما كانت عاملاً في زوال الوحدة، ويقول: «الآن لدينا جفاف، وآمل ألا يفضي هذا إلى ظهور مشاكل سياسية».

في عين العاصفة

بدأت تظهر تحليلات كثيرة تعتبر سورية حالة نموذجية عن مساهمة تغيّر المناخ، مع مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية، في نشأة الصراع المسلّح وتطوره. بل إن البعض يعتبر أن جميع التحركات الشعبية التي شهدتها دول الربيع العربي تأثرت بالتغير المناخي بشكل أو بآخر.

إن دولاً مثل هندوراس وميانمار ونيكاراغوا وبنغلاديش وفيتنام والفليبين ومنغوليا وغواتيمالا هي من بين أكثر دول العالم التي عانت من التغيّر المناخي خلال الفترة بين 1993 و2012.

أما في منطقة الشرق الأوسط، فتعاني إيران بشكل خاص من مشاكل عميقة ترتبط بالتغيّر المناخي، ولا سيما ما يتصل بانخفاض منسوب المياه الجوفية وجفاف البحيرات الطبيعية والتصحر، إلى درجة جعلت وزير الزراعة الإيراني السابق عيسى قلانطري يصرّح بأن «مشكلة المياه التي تتهددنا هي أكثر خطورة من إسرائيل والولايات المتحدة والنزاعات السياسية، إنها مسألة بقاء الأمة، فأرض إيران تصبح غير صالحة للسكن».

وهناك العراق، الذي تتطور أزماته إلى صراع مسلح نشهده حاليّاً، موضوعيّاً، ما سبق عرضه عن سورية يصلح بشكل كبير لشرح ما يحصل في العراق.

البلد الثالث الأكثر عرضةً لمخاطر تغيّر المناخ في الشرق الأوسط هو الأردن، الذي وفق ما صرّح به الملك عبدالله الثاني لصحيفة «الحياة» في (يونيو / حزيران 2013)، «يتحمل عبئاً هائلاً يتمثل في الضغط على البنية التحتية والموارد الطبيعية، وخاصةً المياه والطاقة. والأهم الصدمات التي يتسبب بها تدفق اللاجئين للاقتصاد الوطني، مثل التشوهات في سوق العمل ومزاحمة الأردنيين على المتوافر من الفرص، فضلاً عن التعليم والرعاية الصحية».

إن موسم شتاء هذا العام، الذي قارب على نهايته، يبدو في سوء موسم شتاء 2007-2008 من حيث الجفاف وقلة الهاطل المطري. الأمر الذي ينذر بعواقب اقتصادية واجتماعية قاسية لا يمكن التخفيف من مخاطرها إلا بمبادرات فاعلة وذات تأثير معتبر على معيشة المواطنين. وبغير هذه المبادرات الجريئة فإن الربيع العربي قد يجد طريقه إلى الشعوب العطشى إلى الماء والعدالة الاجتماعية.

يمكن قراءة النص الكامل للدراسة، مع جداول، على موقع مجلة «البيئة والتنمية» www.afedmag.com

العدد 4227 - الخميس 03 أبريل 2014م الموافق 03 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً