العدد 4282 - الأربعاء 28 مايو 2014م الموافق 29 رجب 1435هـ

القضايا الخاسرة والمُخسِرَة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أكثر ما يُحزِن المرء، هو أن يموت في سبيل قضية خاسرة. بالتأكيد، ليست خاسرةً بسبب اختلالٍ في ميزان عسكري، بل خسارتها في غياب أية قيمة لأهدافها. وأحسب أن أكثر القضايا الخاسرة والمُخسِرَة معاً هي القضايا الطائفية، التي باتت روثاً لحروب قذرة.

في الطائفية «قولاً» فليحصي أحدٌ فائدة له (ولغيره) إن هو شَتَمَ أحداً ماتَ قبل مئتين أو ألفَ سنة؟ في الطائفية «فعلاً» ليتتبع أحدٌ نصراً له إن هو أبعدَ غيره عن مكان يستحقه، أو قَتَلَ حباً بين اثنين، انتمى أجدادهما إلى ما لم يتوافق عليه مذهب حاضرهما؟ وربما كان بفعله ذاك، يُشعل شَرَراً يتطوَّر إلى نار عظيمة، تحرق كل شيء.

أما إذا تطوَّر الأمر (كما هو اليوم) إلى الطائفية «مسلكاً عنفياً» فليقل أحدٌ إن هو جنى نصراً مؤزَّراً إن هو صَرَعَ شيخاً في سوق، أو طفلاً في مدرسة، أو امرأةً في طريق، أو أحرق أرضاً أو أفسد زرعاً أو نَهَبَ رحلاً أو أمات دابةً؟ أين القضية هنا وأين الشعار؟ ثم ما هو المآل بعد ذلك؟ بل وأين هي ساحة الخصم الحقيقية والمرئية في مسألة كتلك؟

خلال إحدى الندوات العلمية، سمعت من الأستاذ إدريس الفاسي الفهري، وهو عالم بارز نابِه، أن الضروريات الخمس في مقاصد الشريعة الإسلامية والتي أمرت بالمحافظة عليها جميع الشرائع هي كما قال الإمام الشاطبي: «حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال». وهي «مراعاة في كل ملة» إلى أن يذكر قول صاحب شرح التحرير: «حصر المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء».

ونحن هنا نتساءل: هل هذه الضروريات الخمس، راعاها الطائفيون في معركتهم الخاسرة، أم أنها انتُهِكَت إلى الحد الذي أصبحت فيه الأنفس تباع كسبايا كما تفنَّنت في ذلك بوكو حرام مع الفتيات النيجيريات المختطفات، عندما هدّدت ببيعهن في الكاميرون بمبلغ اثني عشر دولاراً للفتاة الواحدة؟ لا أعتقد أن الورع في ذلك حاضرٌ بالمرة.

في التخيُّل الأبعد، يفترض المسلم الشيعي، لو أنه وُلِدَ في بيت مسلم سُنِّي أفلَن يكون إلاَّ على ما رُبِيَ عليه؟ ولو أن مسلماً سُنياً وُلِدَ في بيت مسلمٍ شيعي، أفلن يكون إلاَّ على ما رُبِيَ عليه. هذا الأمر ينسحب على بقية الأديان والملل، مسيحية كانت أم يهودية أم بوذية أم هندوسية وأضرابها من الاعتقادات السماوية أو الأرضية.

عندما التقيتُ بأحد أرباب الفكر العرب، تحدث لي بمرارة عن قضية الطائفية، التي تجتاح المنطقة، والعراق تحديداً. وبمعايير الزمن المر والرديء، يتحدث «مضطراً» ليقول: «أنا وُلِدت في الموصل (بالعراق) لأسرة مسلمة سُنيَّة». هو لا يقول ذلك بغية التمترس وراء طائفته، لكنه يقولها ليُؤكِّد أنه «كان بالإمكان أن أولدَ في النجف وأكون مسلماً شيعياً. ليس لدينا خيار في مكان ولادتنا». يقولها كي يؤكد ويُكرِّس الثقافة العابرة للطوائف.

قال مضيفاً: «منذ أن بدأنا العمل» على الإنتاج الفكري «قبل 36 سنة، ونحن نمارس مبادئنا. في طلبات تعيين الموظفين لا ندقق لا في الدين ولا في المذهب. على الأقل لدي عشرة موظفين إلى الآن لا أعرف هل هم مسلمون أم مسيحيون. كان لدي سائق اثني عشر عاماً لا أعرف هل سُنِّي أم شيعي إلى أن جاءت إحدى المناسبات» وعرفتُ انتماءه.

نعم، لقد استفحل «الحقد الطائفي» بعد أن امتزج الدِّين بالمآرب السياسية، الأمر الذي قوَّى من ذلك النَّفَس. لقد ضاعت أسبقية مَنْ على مَنْ في الاتباع والخدمة عند أولئك: الدِّين يخدم السياسة، أم العكس، دون أن يدركوا أن السياسة والحكم هما باختصار، «ناديان للقمار، وماخوران للفساد لا يستقيمان مع أي شيء غير هذا» كما كنت أقول فكيف بتوظيف الدين.

والحقيقة، أنه إذا كان هناك عصرٌ جليدي، وآخر حجري، فلا نتجاوز إذا ما وصفنا عصرنا الحالي بـ «عصر العهر السياسي». الفارق، أن في العصر الأول، غطَّى الجليد المعمورة بغير إرادة البشر، وفي الثاني بدأ الإنسان في استخدام الحجارة لصنع حاجياته. أما في عصرنا هذا، فلم يبق شيءٌ إلاَّ وأدخِلت السياسةُ فيه، بشراً كانوا أم نباتاً كان أم جماداً! إنها جائحة.

وفي خِضَمِّ تلك الفوضى والسيولة السياسية الممزوجة بالطائفية، كثُرَت التأويلات في كل شيء. في الدِّين والاجتماع والاقتصاد وفي غيرها من الأمور، إلى الحد الذي صار توالدها أمراً يدعو إل الخوف. وقد بات ضبط ذلك أمراً في غاية الضرورة، كي يعي الناس أن ما يجمعهم «إنسانياً» هو أكبر بكثير، من المسائل السياسية، التي في نهاية الأمر هم من يضطلعون بتسييرها.

فإذا كان الطائفيون يعتقدون أن السياسة تخدم الدين، فأين هم من وصف الغزالي لها، (والتي ذكرها الفهري) بأن «السياسة استصلاح الخلق للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها للسير على الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة». هؤلاء اليوم يأخذون السياسة والدِّين بسطحية وخِفة عقل وضعف ضمير لا حد له.

فإذا كان ابن القيم قد وصف مناظرة بن عقيل والفقيه الشافعي حول السياسة الشرعية بأنه «موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب»، فهل هؤلاء يفهمونها كما يجب وهم يفعلون ما يفعلونه من كوارث؟ هيهات.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4282 - الأربعاء 28 مايو 2014م الموافق 29 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 10:25 ص

      جميل

      قضية لا بأس بالنقاش حولها : ما رأيكم في فكرة المناظرات الدينية ( حتى لو كانت علمية ) للوصول للحقيقة ، هل تؤيدونها ؟ اراهم يتحاورون بالساعات ولا يصلون لنتيجة ، ألها فائدة في زماننا هذا ؟

    • زائر 10 زائر 9 | 12:52 م

      أكيد لا

      المناظره في قنوات متورطة في بث الفتنه أكيد ما راح تنفع واعتقد الناس يكفيهه تفعم كلام القران (( واعتصمو بحبل الله ولا تفرقوا)) وهاي الكلام الي ما ياخذ فيه معناته مو مسلم ول يبيله مناظره لزيادة التفرقه ول شي أية واضحه تثبت اغلاط بعض علماء المسلمين الي ينحرون ورأ الفتنه في تصريحاتهم وخصوصا الهجوم والشتم والقران واضح

    • زائر 8 | 10:20 ص

      متابع

      ابن رشد : إذا أردت أن تتحكم في جاهل ، عليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني .

    • زائر 7 | 10:17 ص

      متابع

      نريد أن نعرف كيف تغلب الغرب على مسألة الطائفية ، هل لأن التسامح الديني شاع بينهم ؟ أم لأنهم لم يعودوا يهتمون بالدين أصلا ؟

    • زائر 11 زائر 7 | 12:53 م

      واضح

      في المخاطر الغرب كلهم يد وحده والعرب صرب وفتن بين بعضهم بعض أبون تغلبوا الفتنه لعزلة من يتسبب فيهه من الي يشتم طائفة ومن الي يزرع الفتن عن طريق محاضررات ضد طائفة

    • زائر 6 | 6:02 ص

      موفق

      عوفيت..

    • زائر 4 | 5:19 ص

      اخي العزيز

      كلامك علمي عن الطائفية بس كلامك يقول ان كل العالم طائفيين ونقص كلامك في مسببات هالاشياء ومن السبب في الطائفية من كبار النسوليين ورؤساء الدول الي لما نجوف يتعدون عل الأصابع لكن يخلون شعوب تتقاتل بالطائفية ويرعون فيهم الفتنه فكلامك يقول تحليل للبشر مو مسببات هالشي واعتقد المل يعرف الطائفية من وين وشلون تصير ومن السبب ولحساب من ولفائدة من

    • زائر 3 | 5:16 ص

      كلام غلط

      لو تربى الشيعي في بيت سني او العكس هاي الكلام كلام علمي لا غير ،، فهالكلام يناقض كلام الله في القران (( ويهدي من يشاء بغير حساب))
      واعتقد اختيار المذهب او غيره شي يخص العقليه وعقلية الانسان معروفه بنضوجهه وتوجهه

    • زائر 5 زائر 3 | 5:43 ص

      المشكلة

      سيعتقد كل شخص سني او شيعي ان الله هداه الي السراط المستقيم وهنا المشكلة في قضية الفرقة الناجية

    • زائر 2 | 2:50 ص

      تحدث من ولمن تكتب ؟؟؟؟؟

      تخاطب من له عقل ويزن الامور بالموازين الشرعية من يقتل النفس ظلما ويسفك الدماء عدوانا لا تحسبه الا الا شيطان وباع او باع نفسه للشيطان قاتل الله الجهل وطاعة محاربي الاديان والانسانية

    • زائر 1 | 10:31 م

      القيم و الاستغلال

      كل القيم المطروحة في المجتمعات البشرية منذ الخليقة تهدف الي اغتنام ميزة مادية، اقتصادية او اجتماعية للتسلط علي الآخرين و ليس لسبب اخر. لذا نري القيمة او الأصل الاجتماعي او الفكري السائد في مكان ما يخالف ماهو مميز في مكان اخر. انا اريد ان احصل علي شيئ يفضلني و يميزني عن غيري، لذلك ابحث عن أفضلية لأهلي او فكري او عقيدتي او انتمائي لطرحها لكسب و اقتناء الميزة عنك. القيم المطروحة كلها معنوية و غير قابلة للقياس الفيزيائي و تؤشر علي سفاهة البشر.

اقرأ ايضاً