العدد 4285 - السبت 31 مايو 2014م الموافق 02 شعبان 1435هـ

الفقيه الكركي ومهمة إصلاح الدولة الصفوية

حسن سعيد Hasan.saeed [at] alwasatnews.com

الفقيه الكركي عمل على سد الفراغ الفقهي، إضافة إلى دوره الإداري العملي. إضافة إلى ذلك، لا يبعد أنه من كان وراء منع الشاه طهماسب من شرب الخمر والقيام بإغلاق الحانات وبيوت اللهو التي كانت منتشرة في فترة الشاه إسماعيل. من هنا يمكن إدراك الدور الكبير الذي قام به الشيخ الكركي حيث كانت الدولة الصفوية نفسها معرضة لأن تكون مجرد شعار يرفع بالتمسك بالمذهب الشيعي لكن محتواها صوفي مغالٍ وبعيد كل البعد عن التدين الواقعي

لافتة هي العلاقة التي جمعت بين الشاه الصفوي والفقيه الشيخ علي بن عبدالعالي الكركي (المتوفى العام 1533 للميلاد تقريباً). الشاه من أصول تركية ويحكم دولة فارسية والشيخ من أصل لبناني. رغم اختلاف الأصول، جمعتهما دولة واحدة، عملا سويّاً على تثبيتها ونهوضها. في الوقت الذي كان الصفويون يصنعون دولتهم، كان الشيخ الكركي يصنع شخصيته العلمية. بعد ميلاده في قرية كرك نوح بلبنان، درس في جبل عامل بدايات التحصيل العلمي الديني ثم انتقل للدراسة في مراكز العلم الخاصة بالمذاهب السنية في مصر ودمشق ومكة المكرمة وحصل على بعض إجازات علمائها. بعدها رجع للبنان وواصل دراسته الدينية لينتقل بعد ذلك للنجف الأشرف بالعراق ويكون من أبرز المجتهدين فيها. أسس الصفويون دولتهم، واتصلوا بعلماء الدين الشيعة في العراق ولبنان والقطيف والبحرين، وكانت مهمة الفقيه الكركي ترشيدها وإصلاحها.

بعد قيام الدولة الصفوية انتقل الشيخ الكركي إليها وكان على سدة الحكم حينها أول حكامها الشاه إسماعيل الصفوي لتبدأ معه علاقة الشاه الصفوي بالفقيه الشيعي.

منذ البداية، وحين التقى الشاه والفقيه في منطقة هراة تبدى الخلاف بين الرجلين. كان الشاه في تلك الفترة في أوج قوته ينتقل بجيشه من منطقة لأخرى للاستيلاء عليها. في ذلك الوقت، لم يكن الفكر الشيعي الاثناعشري قد ترسخ بعد، وكان الفكر الصوفي العلوي هو المهيمن على فكر الشاه وجيشه. استولى الشاه على هراة وكانت مركزاً من مراكز العلم لعلماء أهل السنة وفيها جمع من العلماء الكبار فأمر بقتلهم وعلى رأسهم عالم كبير يعرف بالشيخ أحمد الحفيد. رفض الشيخ الكركي قتل العلماء وأعلن رأيه أمام الشاه. بدا الشيخ الكركي غير آبه بما سيجره عليه هذا الاعتراض ومصراً على أن يحتفظ بمسافة بينه وبين أي خطأ قد يصدر من الشاه. تحمل هذه الحادثة الكثير من الدلالات أهمها أن الشيخ الكركي لا يقر أخطاء الدولة الصفوية ويميز بين موقفه وموقفها في بعض القضايا ولكنه، في نفس الوقت، يحرص على التمسك بها وإصلاحها. بكلمات أخرى، يمكن القول إن الشيخ الكركي رغم علمه بأخطائها كان يرى الأسلوب الأمثل في التعامل معها هو السعي لإصلاحها وتوجيهها بدل العزوف والابتعاد عنها. وهذا ما نجح في القيام به، في حدود معينة، وخصوصاً بعد وفاة الشاه إسماعيل وجلوس ابنه الشاه طهماسب على سدة الحكم.

لم يكن الشاه طهماسب كأبيه ولم يكن الشيخ الكركي كغيره من الفقهاء. جاء الشاه طهماسب للحكم بعد أبيه الشاه إسماعيل، وبعد أن قامت الدولة وبدأت تتشكل مؤسساتها وقد استقر في حكمه لما يقرب من الخمسين عاماً ما ساهم في استقرار دولته وخصوصاً بعد مضي السنوات الأولى من حكمه. ينقل أنه كان أكثر ميلاً للتديّن من والده. ميل الشاه الجديد للتديّن من جهة واستقرار الدولة بعد معارك التأسيس الأولى من جهة ثانية ساهما في إفساح المجال واسعاً لتطلعات الشيخ الكركي. كان الشيخ حينها في النجف الأشرف فجاء للدولة الصفوية مصحوباً بإعلان رسمي لا سابق له في تاريخ الشيعة، حيث أعلن الشاه طهماسب أن الشيخ الكركي يعتبر نائباً للإمام وأصل المُلك له، وأن قراراته نافذة. هذه العبارات والتوصيفات الجديدة جعلت البعض يصف الشيخ الكركي بأنه أول من مارس بشكل فعلي ولاية الفقيه ولكن في حدود معينة.

وجد الشيخ الكركي في الدولة الصفوية فرصة سانحة لازدهار المذهب الشيعي. تولى زمام المؤسسة الدينية وراح يؤسس الحوزات والمدارس الدينية ويوجه بتعيين العلماء الذي راحوا ينتشرون في المدن والقرى الإيرانية. كانت كاشان مقر إقامته ولكن انشغاله كان يتسع لكل الأرض الإيرانية. لم يقتصر عمل الكركي على الجانب الإداري فقط بل قام بتدريس بعض رجالات الدولة بنفسه كما كانت آراؤه الفقهية، رغم وجود غيره من الفقهاء، هي التي يتم الامتثال لها في قضايا الدولة مثل كيفية التعامل مع الخراج وحكم صلاة الجمعة وغير ذلك من الآراء الفقهية.

بكلمات أخرى، يمكن القول إن الفقيه الكركي عمل على سد الفراغ الفقهي، إضافة إلى دوره الإداري العملي. إضافة إلى ذلك، لا يبعد أنه من كان وراء منع الشاه طهماسب لشرب الخمر والقيام بإغلاق الحانات وبيوت اللهو التي كانت منتشرة في فترة الشاه إسماعيل. من هنا يمكن إدراك الدور الكبير الذي قام به الشيخ الكركي حيث كانت الدولة الصفوية نفسها معرضة لأن تكون مجرد شعار يرفع بالتمسك بالمذهب الشيعي ولكن محتواها صوفي مغالٍ وبعيد كل البعد عن التدين الواقعي.

الدور الكبير الذي حظي به الشيخ والمسئوليات الكبرى التي كانت على عاتقه أعطته نفوذاً لا يستهان به وألبت عليه بعض الخصوم. فرغم أن منصب «شيخ الإسلام» - وكان يعادل منصب قاضي القضاة - يأتي بعد منصب الصدر - يعادل في زماننا منصب رئيس الوزراء - إلا أن دور الشيخ وشخصيته القوية كان له حضوره الذي طغى على شخصية الصدر، وبات الكركي يعد الشخصية الدينية الأولى في الدولة. هذا على المستوى الديني، أما على المستوى السياسي فقد كان نفوذ الشيخ طاغياً الأمر الذي ألب عليه بعض الخصوم وخصوصاً القزلباش وهم الذين كانوا يتولون المناصب السياسية الرئيسية والمهمة في الدولة بالإضافة لسيطرتهم على الجيش. مثل نفوذ الشيخ والمؤسسة الدينية التي يرأسها قلقاً لبعض اصحاب النفوذ. ومما زاد من حنقهم على الشيخ هو تصديه للتصوف والغلو الذي مازالوا يؤمنون به. لم يكترث الشيخ لمنصب الشاه فاعترض عليه كما لم يكترث لمعتقدات «القزلباش» - وهم جماعة عسكرية صوفية اعتمد عليهم الشاه - رغم نفوذهم في الدولة فتصدى لهم، لذلك بدا الشيخ مؤمناً بفكره ومساره الفقهي ومستعداً للمساهمة في بناء الدولة الصفوية ولكن مع عدم التهاون أو التغاضي مع ما يعتقد بكونه مسارات سياسية أو فكرية خاطئة. من هنا يمكن فهم أبعاد الخصام مع الشيخ والذي يعتقد أنه وصل حتى للشاه إسماعيل نفسه حيث استشعر خطره.

وسط ذلك كانت هناك محاولة اغتيال للشيخ الكركي وقد انتهى الأمر بأن يرجع الى النجف. عاد بشكل أقوى في عهد طهماسب ولكن دوره، للمرة الثانية، لم يرق لأصحاب النفوذ وقد خشي الشاه طهماسب من ردود فعل المؤسسة العسكرية ما جعله يقترح على الشيخ الهجرة مرة أخرى إلى العراق. بعد فترة عاد الشاه طهماسب ليطلب من الشيخ العودة للدولة الصفوية ولكنه توفي قبل عودته ما جعل بعض العلماء يرون أنه ربما تم اغتياله بالسم من قبل المتنفذين في الدولة الصفوية.

إبعاد الشيخ لمرتين من الدولة الصفوية وتعرضه لمحاولة اغتيال واحتمالية وفاته مقتولاً كلها دلائل على استقلالية الشيخ في علاقته مع الشاه والمحيطين به. لقد حافظ على دوره رغم المخاطر على حياته واستطاع أن يوسع من دائرة صلاحياته وخصوصاً في فترة حكم الشاه طهماسب. بذل ما في وسعه لإصلاح الدولة الفتية وواجه الكثير من التحديات ومن أهمها ظهور بعض علماء الشيعة الذين عارضوا الكثير من أطروحاته الفقهية وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي وهذا ما سوف يكون محور المقال المقبل.

إقرأ أيضا لـ "حسن سعيد"

العدد 4285 - السبت 31 مايو 2014م الموافق 02 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 6:07 م

      اجسنت

      مقاال مميز..سلمت يداك اخي الكاتب

    • زائر 6 | 11:25 ص

      مقال جميل

      اختيار هذه الشخصية أثرى المقال و حببني في قرائته رغم اني لم اعرفها مسبقا.
      لكن الكاتب زج بالقاريء مباشرة في خضم مقاله الثري بالمعلومات، كنت أتمنى أن تكون هناك معلومات عن الشيخ الكركي قبل الخوض في سيرته. شكرا للكاتب مع تمنياتنا له بالتوفيق

    • زائر 4 | 1:20 ص

      شكرا

      أشكرك على مقالاتك.
      تتميز مقالاتك بأسلوبها البعيد عن السرد التاريخي الممل، تحاشي التفاصيل غير المهمة، و المحافظة على انتباه القارئ للخط الزمني.
      وفقكم الله لكل خير.

    • زائر 5 زائر 4 | 1:58 ص

      سيرة شخبوط

      وبعدين طاخ طوخ وعععععععععععععععع

    • زائر 3 | 12:54 ص

      مقال جميل

      مقال تاريخي جميل يؤرخ وينقد فترة تاريخية مهمة بأسلوب شيق.

    • زائر 1 | 11:16 م

      أروع من رائع

      أحسن الكاتب تتبعات الشيخ الكركي، وكأنه الخواجه نصير الدين الطوسي في بغداد .. والجميل أنه استطاع توصيل أهم الأفكار في سطور بسيطة؛ وذلك ينم عن ذكاء مفرط في التلخيص مع عدم تغافل أهم الزوايا الركنية في ذات الموضوع.. فهنيئا لنا بكم أستاذ أخوكم/عبد الأمير زهير،،

اقرأ ايضاً