العدد 4327 - السبت 12 يوليو 2014م الموافق 14 رمضان 1435هـ

عودة المهاتما غاندي إلى لندن

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من الأخبار اللافتة الأسبوع الماضي، إعلان وزير الخارجية البريطاني وليام هيج (الثلاثاء 8 يوليو/ تموز) خطةً لإقامة تمثال للمهاتما غاندي، الزعيم الهندي الذي قاد النضال لاستقلال بلاده عن بريطانيا.

تزامن ذلك مع زيارة هيج مع زميله وزير المالية للهند، من أجل توثيق العلاقات التجارية والاستثمارية مع الحكومة الجديدة برئاسة نارندرا مودي. وجاء إعلانه خلال زيارةٍ لنُصُب غاندي في دلهي حيث قال: «قرّرت الحكومة البريطانية أن يكون لدينا العام المقبل تمثال لغاندي في ميدان البرلمان. هذا أفضل مكان بالنسبة لنا فهو أهم مكان يمكننا وضع تمثال لأي شخص فيه وأعتقد أن دروس غاندي فيما يتعلق بالسلام بين المجتمعات والاحتجاجات السلمية مهمة اليوم بقدر ما كانت مهمة في عصره».

التمثال سيوضع في ميدان البرلمان ليأخذ مكانه الطبيعي إلى جوار تماثيل شخصيات تاريخية أخرى، مثل نيلسون مانديلا وإبراهام لينكولن وونستون تشرشل. فمانديلا هو الذي خلص بلاده، جنوب أفريقيا، من نظام الفصل العنصري الذي سيطر عليها لثلاثة قرون. ولنكولن هو أول من بدأ بتخليص بلاده، الولايات المتحدة، من لوثة التمييز العنصري ضد السود. أما تشرشل فهو الذي تصدّى للنظام النازي العنصري وساهم بدورٍ كبيرٍ في دحره وتخليص أوروبا والعالم من وطأته.

وضع تمثال غاندي إلى جوار هذه الشخصيات، خصوصاً مانديلا ولنكولن، أمرٌ طبيعيٌ، فهو صاحب مدرسة المقاومة السلمية التي أثّرت كثيراً على مستوى العالم. وكان ممن تلمسوا خطاه مانديلا نفسه، والقس الأميركي مارتن لوثركنغ، داعية الحقوق المدنية الشهير، الذي قاد حركة مناهضة للتمييز العنصري في الولايات المتحدة في الخمسينيات حتى مقتله في الستينيات، وهو لم يبلغ الأربعين. لكنّ حركته أثمرت تغييرات في القوانين، واعترافاً للسود بحقوقهم السياسية والمدنية أسوةً بالبيض من ذوي الأصول الأوروبية.

حين انطلق لوثركنغ في حركته، كان السود في أوضاع بائسة، غير معترف بهم كمواطنين، وكان التمييز ضدهم يمارس بحماية القانون، الذي يفرض على الأسود إخلاء مقعده لأي شخص أبيض، فضلاً عن مظاهر التمييز والفصل بين الناس. وكان يراهن على المستقبل، فيما كان العنصريون يتشبثون بحبال الماضي المهترئة، تمسّكاً بمصالحهم وامتيازاتهم ليس إلا، ولكن لا يصح إلا الصحيح. فبعد خمسين عاماً، انتخب الأميركيون محامياً شاباً أسود، رئيساً للبلاد.

غاندي الذي يفكّر البريطانيون الآن بإقامة تمثال له أمام البرلمان، جاء إلى لندن العام 1882، لدراسة المحاماة، وعاش حالة ضياع في الأشهر الأولى، وحاول أن يعيش مثل الإنجليز ويقلّدهم في مشربهم وملبسهم. وكانت بداية حياته عادية جداً، فقد تزوّج في الثالثة عشر من عمره، ورُزق أربعة أولاد، وكان يمكن لحياته أن تسير على ذات المنوال التقليدي. لكن فرصة حياته جاءته بالسفر إلى جنوب أفريقيا، للعمل في شركة تجارية هندية، بعدما فشل كمحامٍ في الهند. وهناك فتح عينيه على ما يلاقيه الهنود والسود والملوّنون من ظلم وتمييز عنصري على يد الأقلية البيضاء.

موقفٌ واحدٌ تعرّض له غاندي غيّر حياته وحياة الملايين في بلاده ودول أخرى عبر العالم، يوم 21 مايو 1893، على متن قطار، وهو يحمل تذكرة ركاب الدرجة الأولى، ولم يكن يعلم أن القوانين العنصرية تحرّم عليه ذلك فقام أحد الركاب البيض بالوشاية به، وانتهى به الحال إلى الضرب والإهانة وسحبه من مقطورة الدرجة الأولى.

هذا الموقف هو الذي أطلق شرارة النضال المقدّس ضد العنصرية. فلما عاد إلى الهند بعد عشرين عاماً التحق بحزب المؤتمر الهندي وسرعان ما أصبح من قيادات الصف الأول لينتهي زعيماً ومحرّراً للهند.

خلال سنوات النضال، تعرّض للسجن مراراً على يد السلطات البريطانية، ووجد نفسه مراراً في مواجهة الشرطة التي أشبعت أنصاره ضرباً وتنكيلاً. ولم يكن الإنجليز يفكّرون حينها بالتخلّي عن الهند، جوهرة التاج البريطاني. ومع اشتداد المحنة ارتفعت أصواتٌ كثيرةٌ تنادي بالكفاح المسلح، لكنه تمسّك بمبادئ حركته السلمية، مؤمناً بأن «اللاعنف هو أعظم قوة متاحة أمام البشرية، وهي أقوى من أقوى الأسلحة المدمرة التي أنتجها الإنسان».

كان غاندي يراهن للنجاح على ما يتمتع به الخصم من حرية وبقية ضمير، تؤهله للدخول في حوار جدي مع الطرف الآخر. وكان يؤمن بحتمية التغلب على نظام الاحتلال المريض، وتجنيب البلاد شلالات الدم، فكل حركة مسلحة في مواجهة القوة العسكرية للإمبرطورية البريطانية المتوحشة مآلها الفشل وسفك الدماء، وقد شهد بعينيه كيف كانت تطلق الرصاص الحيّ على المتظاهرين السلميين وتقتل منهم المئات بدمٍ بارد.

يعود غاندي الربيع القادم إلى عاصمة الاستعمار القديم، لندن، ليقف إلى جوار لنكولن، وتلميذه مانديلا، ليس دارساً للحقوق هذه المرّة، وليس مترئساً وفداً من هنود جنوب أفريقيا المضطهدين، ولا زعيماً مفاوضاً لانتزاع استقلال الهند... وإنّما معلّماً أكبر لدروس الحقوق والنضال من أجل حرية وكرامة الإنسان.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4327 - السبت 12 يوليو 2014م الموافق 14 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 4:09 ص

      ان شاء الله سيكون للبحرين تمثالا ايضا في بريطانيا

      بعد ان يقضي مجموعة من شعب البحرين شهداء بمعونة الحكومة البريطانية سوف يقام تمثال يختص بشعب البحرين على ارض بريطانيا بعد فترة

    • زائر 5 | 3:50 ص

      بعد سفك دماء الابرياء من الشعب المسكين اعادة تمثال جماد

      يعيدون تمثال جماد ولا زالوا يمارسون نفس الادوار في قتل الشعوب والاعانة عليها وشعب البحرين خير مثال لكلي لا نذهب بعيدا فها هي بريطانيا تقف مواقف غير مشرّفة من قضيتنا بل وتعين علينا وكل قطرة دم تسقط لهم يد فيها

    • زائر 4 | 2:40 ص

      للسيد قاسم

      استاذي ابوهاشم، الغرب يستفيد من عدوه في كل شيء حتى لو حاربه وهزمه، فانه يحوله الى ماركة سياسية او تجارية يروج من خلالها مصالحه، ولك في جيفارا مثال صار صورة تباع ووجها مطبوعا على الشيرتات. التعمق افضل. تحياتي

    • زائر 3 | 2:21 ص

      غاندي والسلمية

      عندما دخل غاندي المعترك السياسي وحارب المحتل بسلميته واساليبه البدائية كما ذكر لي احد الاشخاص عند زيارتي للهند بان الهنود كانو يبعثون باطفالهم الصغار في الصباح الباكر ليتغوطو في الممرات والطرقات التي يمر علها البريطانيون مما حدا ببالكثير من عمال النظافة تركهم العمل للمنظر المقرف حتى ان بعض البريطانيين يدوس على القذارة بحذائه ولا يشعر بها الا في مكان عمله وفي مكتبه حين يشم تلك الرائحة فيبحث عن مصدرها في مكان العمل ويستدعي (المنظف) ليحاسبه على تلك الرائحة فيجدها عالقة بحذائه وهو من احضرها

    • زائر 2 | 12:49 ص

      صباح الخير ياسيد

      يتراوى لي بان السلمية في هذا الزمان لن تحقق شيئا حالها حال العنف.
      في هذا الزمان ان لم تكن ذئبا ضاريا اكلتك الذئاب من حولك.الا ترى الى القواعد والدواعش كيف يعترف بهم العالم ويحسب لهم الف حساب؟
      وفي النهاية لاننا نخشى الدماء ومن اي طرف كان لذلك سنصر على السلمية وستكون كلفتها كلفة العنف فالسلمية بؤس وشقاء وحرمان وشعوب من شتى البقاع ستقاسمك الارض والرزق ولا يمكنك الا الاعتراف بهم بعد مدة من الزمن كما اعترفت الحكومة بالايرانيين واعطتهم الجنسية وشاركوك في جميع مفاصل الحياة والعنف شلالات من الدماء

اقرأ ايضاً