كثيرة هي تلك الأحداث والمعارك العسكرية التي وقعت في مياه الخليج وعلى شواطئه في القرن التاسع عشر، وهو قرن تكوين الكيانات السياسية في المنطقة بحق بين مد وجزر لها حتى الاستقرار. وخلال العام 1867 من ذاك القرن وقعت عدة أحداث عسكرية مهمة جداً، صاحبها اعتداءات ضد بعض التجار العرب في الخليج، وفي المساحة المائية تحديداً بين البحرين وقطر، وقد سجلتها الوثائق البريطانية يوماً بيوم تقريباً ضمها ما يسمى بـ (Foreign Department) في إدارة المستعمرات البريطانية.
ومن تلك الأحداث حصلنا على وثيقتين لهذا الأسبوع عمرهما نحو 150 عاماً، تتعلقان بشكوى بعض التجار البحارنة من ميناء (لنجة) الخليجي للسلطات البريطانية ضد جماعة قاموا بنهب بضائعهم في فترة الصراع بين بعض الكيانات القبلية في تلك المياه، وهم ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل. وكانت موجهة إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، ولأهميتهما في التعرف على أصحاب الشكوى وسبب ما حدث، نوردهما هنا.
وسنبدأ بالوثيقة الثانية، وهي مرسلة من الكابتن (Cotton Way)، المساعد الأول للمقيم السياسي، إلى المقيم السياسي لجلالة الملكة البريطانية في الخليج، وهي تحمل رقم 172، وبتاريخ 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1867، تقول الوثيقة:
«يشرفني أن أرسل الشكوى المرفقة التي قدمها (رحمة الله)، وهو أحد الرعايا البريطانيين ويسكن في لنجة، والتي تفيد أن أملاكه، وهي 31 كيساً من البن، ومائة قطعة من الملابس، إضافةً إلى 4.131 قران، وكانت في عهدة وكلائه على ساحل قطر، قد تم نهبها على يد زعيم القوة المهاجمة.
ويظهر لكم من الرسالة المعلمة بحرف B، أنه في بادئ الأمر تم استثناء هذه الممتلكات من النهب كونها تعود لشخصية بريطانية، لكنها فيما بعد نُهبت بعد أن تم شحنها».
والوثيقة الثانية، هي الرسالة التي وصلت من السيد رحمة الله من لنجه إلى المقيمية البريطانية بالخليج في بوشهر حول هذه القضية، وهي مربط الفرس لما تتضمنه من أسماء من نُهبت بضاعتهم، ليتضح من كان لهم الثقل منذ القدم في تجارة الخليج ودعم اقتصاده الذي دُمر ونُهب بسبب حروب أهل البادية ضد أهل الحضر والتجار. تقول الوثيقة:
«لنجة، بتاريخ 27 رجب 1284- 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1867
من - الحاج رحمة الله بن حميد، حيدر آباد
أستميحكم في أن أرسل إليكم لائحة بالبضائع وغيرها، التي وضعتُها بعهدة الوكلاء في قطر. في بادئ الأمر استثنى الشيخ هذه البضائع من النهب، ولكن بمجرد شحنها تم نُهبها في عرض البحر.
وهذه لائحة بالبضائع والأموال التي كانت في عهدة الأشخاص، وهي كالتالي:
الاسم، الوصف، الثمن - قران (عملة فارسية)
بن خلف وابنه مهدي، بحراني 31 كيساً من البن و100 قطعة ملابس (من قماش انجليزي) ----
بن خلف، بحراني نقداً 1,300
الحاج محمد، بحراني نقداً 1,460
كنـﮔوني، بحراني --- 1,100
الحاج علي، بحراني --- 85
السيد هاشم، بحراني --- 150
السيد منصور، بحراني --- 30
المجموع 4,131
وتعليقاً على هاتين الوثيقتين بشكل مقتضب نشير إلى أهمية مثل هذه الوثائق وأمثالها التي دونت بأيدي أصحابها أو من إعادة كتابتها بيد من وصلتهم من الساسة البريطانيين في الخليج. ولذا فهي ليس بها ادعاء أو تزوير، وتحكي حقيقة اقتصادية وتاريخية جد مهمة في تاريخ الخليج في القرون الماضية، خصوصاً خلال فترة مخاض ظهور الكيانات السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث يتضح من قائمة هؤلاء التجار الكبار، والذين هم في الواقع وكلاء لتاجر أكبر منهم وهو رحمة الله بن حميد من لنجة، وكان خلال تاريخ إرسال هذه الرسالة للمقيمية البريطانية في الخليج، في عمل تجاري بمنطقة حيدر آباد بالهند. وهذا يدل على مدى توسع التجار الخليجيين من البحارنة في حدود علاقاتهم التجارية بين الخليج والهند. كذلك تشير لمدى ثقة السلطات البريطانية في عمل هؤلاء، بحيث أسبغت عليهم صفة المواطنة والتابعية البريطانية في المنطقة، في حين لم تعطها لغيرهم، لعلمها المسبق من هم هؤلاء، وماذا يشكلونه في الخليج، وما يقدمونه للحياة الاقتصادية في المنطقة، أو بينها وبين الهند في زمن اللؤلؤ وما بعد ذاك الزمن. كما تبين مثل هذه الوثائق من هم سبب الفوضى والاعتداءات ضد التجار الآمنين في هذه المياه، ومقدار الحيف والتعدي الذي تعرض له هذه الفئة من تجارنا، لمجرد أنهم أناس لا يتبعون القوى المتصارعة في الخليج آنذاك ولا يقفون في صفها، مع أنهم يدفعون لها الضرائب المفروضة قسراً على الموانئ التي قاموا بغزوها وسيطروا عليها، من تلك التي يمرون بها ويستخدمونها في التجارة البينية بين مدن وشواطئ الخليج.
كما تؤرخ الوثيقة الأولى لعدد من أسر البحارنة بأسمائها ممن هاجروا إلى لنجة في القرن التاسع عشر وربما قبله أيضاً، واستقروا هناك في بيئة وفرت لهم الأمان والحرية وعدم الخوف في ممارسة حياتهم اليومية وتجارتهم دون مضايقات، مقارنة بما كانوا يعانونه وهم في أراضيهم الأولى ووطنهم الذي هُجروا منه بسبب الحروب والغزوات الخارجية. وأسسوا هناك في لنجة مجتمعاً جديداً، وحارات ومناطق سميت باسمهم لوقت طويل.
العدد 4333 - الجمعة 18 يوليو 2014م الموافق 20 رمضان 1435هـ