العدد 4345 - الأربعاء 30 يوليو 2014م الموافق 03 شوال 1435هـ

عبدالرحمن النعيمي... المناضل حين يعجن وسيلته بالغاية (2)

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

(*) كلمة ألقيت بتاريخ 15 ديسمبر/ كانون الأول 2013 في منتدى عبدالرحمن النعيمي (بيروت) في ذكرى رحيل المناضل الوطني.

لم يكن عبدالرحمن النعيمي ليهدأ أو ينام، فداخل منظومته وأحلامه ورؤاه الفكرية كانت تجري تحولات دينامية. وأصل الفلسفة كما قيل: حوار وجدل، لذلك كان يميل إليهما، لأنه يجد فيهما بحثاً وتوليداً، ونوعاً من السباحة نزولاً إلى الأعماق أحياناً، وصعوداً فوق التيارات أحياناً أخرى.

لم يكتف النعيمي بنقده الذاتي للتوجهات السائدة في الحركة القومية العربية، ولم يكن أيضاً يقبل بالمقولات الجامدة التي درج عليها التيار الماركسي السائد، لذلك وجد نفسه باستمرار يسعى للبحث والتنقيب، بل والحفر أحياناً بأرض بكر عن مزاوجات طبيعية بين العروبة في إطار يساري، اجتماعي، وهو ما كان قد بدأه نخبة من المفكرين العروبيين من ذوي التوجه اليساري والماركسي.

لقد ظل النعيمي، على الرغم من انتقاله إلى مواقع اليسار العقلاني، متمسكاً بعدد من الثوابت، لم يحد عنها في منطلقاته الفكرية التي أجرى عليها بعض التعديلات الضرورية، ومنها: اعتبار القضية الفلسطينية القضية المركزية، مهما ارتفعت الأصوات؛ فقد ظل في كل جزئياته «فلسطينياً» حتى النخاع، وعروبياً حقيقياً في العمق والأداء، وإن اعتز بخليجيته وبحرينيته، لكنه لم يكن يشعر بالتكامل إلاّ ببعده العروبي والإنساني أيضاً.

وعندما اشتعلت الحرب بين العراق وإيران 1980 – 1988، كان من المبادرين إلى رفع شعار وقف الحرب فوراً والجلوس إلى طاولة المفاوضات، واعتبر تلك الحرب لا تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية. وبعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990 أدان تلك المغامرة، ولكن حينما تجمعت قوات التحالف الدولي لشن الحرب على العراق، وقف ضد الحرب أيضاً، ولم يهمه إن كان موجوداً في بلدٍ شارك حينها، في قوات التحالف الدولي لتحرير الكويت، فاعتقل في سورية وبقي فيها إلى حين انتهاء الحرب وتحرير الكويت، ولكنه لم يغيّر موقفه، وإن ظل ضد سياسات بغداد القمعية، لكنه كان ضد الحصار الدولي الجائر ودفع الثمن باهظاً.

وعندما وقع العراق تحت الاحتلال، كان موقفه إدانة الاحتلال، الأمر الذي دفع بعض القوى إلى الافتراء عليه، والسعي لتشويه موقفه الوطني والعروبي الحقيقي والمتوازن والمبدئي.

لم تكن الوسيلة الشريفة لدى عبدالرحمن النعيمي تختلف عن الغاية الشريفة التي آمن بها، وإذا كنا لا نستطيع التحكم بالغايات، أي بالوصول إليها، فإننا يمكننا التحكم بالوسائل وخياراتها، ولعل ذلك ما كان سيعني التحكم بالغايات أيضاً من خلال اختيار الوسائل. وإذا كانت الغايات مجردة، فالوسائل ملموسة، والأولى تعنى بالمستقبل، أما الثانية فتعنى بالحاضر.

الوسيلة هي شرف الغاية، ولا سيما إذا كانت الأهداف متشابهة أحياناً، لكن الفوارق الجوهرية هي في الوسائل، والوسيلة لدى عبدالرحمن النعيمي هي المقياس للغايات والأهداف والأفكار، وتلك مسألة جوهرية وليست عابرة، لأن الوسيلة تتوحد بالغاية، مثلما لا انفصال بين الجلد والجسد.

كان معيار عبدالرحمن النعيمي أخلاقياً، والسياسة لديه ستبدو بشعة وكريهة دون الأخلاق، وبقدر اقترابها من الأخلاق ستكون مؤثرة وفاعلة، ولعل أي انتصار حقيقي هو في تحقيق الغايات النبيلة والشريفة، ولكن بوسائل شريفة أيضاً.

وبقدر علمانية عبدالرحمن النعيمي ومدنيته، لم يكن يهمل الظاهرة الدينية وهو من أوائل المثقفين السياسيين اليساريين العروبيين الذين بحثوا في هذه الظاهرة، مثلما أقاموا علاقات مع قوى وتيارات إسلامية أو متأثرة بالإسلام، وقاده ذلك إلى التحالف لاحقاً مع التيار الإسلامي في البحرين في إطار عمل مشترك وتعاون وتنسيق في الانتخابات البرلمانية، كما بذل محاولات طوال عقدين من الزمان للتقارب مع الجناح الآخر في التيار اليساري «جبهة التحرير» سواء قبل العودة إلى البحرين أو بعدها، عندما تم تشكيل جمعية «الأمل» (وعد) وجمعية المنبر الديمقراطي، وكان يعتقد أن جبهة اليسار هي الأولى وحجر الزاوية في جبهة التحالف الوطنية والتقارب مع الإسلاميين الذي كان يدعو إليه.

كنت قد توقفت عند موقفه المعتدل والوسطي منذ عقود من الزمان، ولا سيما خلال ندوة للحوار بين التيارين القومي والماركسي، انعقدت في طرابلس بليبيا، في العام 1984 على ما أتذكر، وحضرها نخبة من القياديين، وجرت فيها مناقشات عميقة حينها حول «الأزمة في حركة التحرر الوطني العربية»، وكم كان مهموماً بتيار عروبي يساري يشكل نواة حقيقية لمراجعة الأزمة البنيوية، ويراجع مسارات الحركة التحررية العربية، ولا سيما التوقف عند التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها بهدف التغلب على الصعوبات والعراقيل التي تعوق انطلاقتها، وخصوصاً ضعف التوجه الديمقراطي لدى فصائلها وأحزابها.

كان عبدالرحمن النعيمي حالماً، بقدر ما كان واقعياً أيضاً وعملياً في الوقت نفسه، واستحق تقدير واعتراف الجميع من ممثلي الأحزاب والقوى العربية، فقد كان قادراً على تغليب ما هو عام على ما هو خاص، باحثاً عن المشترك الإنساني، واضعاً قضية التحرر بتلازمها الوطني والاجتماعي، العروبي والإنساني في إطار هارموني.

والأهم من كل ذلك أنه كان إنساناً يتدفق محبةً وإخلاصاً في علاقاته الشخصية والعامة، فحظي باحترام لا حدود له في الاتفاق والاختلاف، ولم يدع تلك الاختلافات تكون عائقاً أمام استمرار علاقاته الإنسانية.

لم يكن تطور النعيمي سوى تراكمات موضوعية وذاتية، وقراءات ومراجعات وتجارب فيها الناجح والمؤثر وفيها الفاشل والسلبي، ولكنه كان يختزن عبراً ودروساً باعتبار النظرية ليست مجردة أو رمادية، لأن شجرة الواقع كانت تغذيها باستمرار، وهذا ما آمن به النعيمي كيساري أصيل.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 4345 - الأربعاء 30 يوليو 2014م الموافق 03 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:26 ص

      تحياتي للكاتب

      قد اختلف مع الدكتور عبدالحسين شعبان بالنسبة للفكر الماركسي ولكن والحق يقال ان النعيمي وعبدالحسين شعبان قمه في التواضع والاخلاق

اقرأ ايضاً