العدد 4386 - الثلثاء 09 سبتمبر 2014م الموافق 15 ذي القعدة 1435هـ

انتصار غزة في الميزان

رضي السماك

كاتب بحريني

لعل العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة هو أكثر الحروب العدوانية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني أهمية لجهة نتائجه السياسية عميقة المغزى، والتي يمكن استخلاص عبرها ودروسها الثمينة بالنظر إلى ظروف المرحلة النضالية شديدة التعقيد التي يمر بها كفاح الشعب الفلسطيني وفصائله وقواه المقاومة.

حتى أن أغلب الكتاب والمحللين السياسيين وضع القضية الفلسطينية بعد العدوان الأخير لن يكون كما كان قبله، ويرجحون بأن «إسرائيل» لن تجرؤ مستقبلاً على خوض حرب عدوانية على غزة بنفس وحشية وطول فترة العدوان الأخير، والذي سجل خلاله الشعب الفلسطيني ومقاومته ملحمة صمود تتفرد عن كل ملاحمه السابقة في تاريخ الحروب العدوانية الإسرائيلية على هذا الشعب.

من أول هذه الدروس والعبر ما لعبته الوحدة الوطنية في العمل الميداني المقاوم من دور مؤثر طوال العدوان على القطاع خلال 50 يوماً. وثاني هذه الدروس والعبر ما أظهرته المقاومة من قدرة على استلهام وابتكار الاعتماد على القدرات الذاتية لها ولشعبها في وسائل المقاومة المسلحة، كما تجلت في تجربة حفر مئات الأنفاق وتخزين الصواريخ التي فاجأت العدو، وكشفت عن ضعف أجهزة استخباراته المختلفة في العلم بها مبكراً، رغم كل ما يحيط بقطاع غزة المحاصر من ظروف غاية في التعقيد، جغرافياً وجيوسياسياً، لملائمة المقاومة المسلحة.

وثالث تلك الدروس والعبر ما أحرزه الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة من حملة تضامن عالمية فعالة غير مسبوقة، وخصوصاً في أوروبا وأميركا اللاتينية في مقابل أسوأ تخاذل عربي يصل إلى درجة التواطؤ المكشوف مع الدولة الصهيونية العنصرية المعادية لجميع العرب.

أما رابع هذه الدروس فيتمثل فيما تحقق عن المفاوضات من نتائج ايجابية نسبياً، بفضل تشكيلة الوفد الموحّد لمفاوضات القاهرة من جميع فصائل المقاومة والقوى السياسية.

على أن تلك النتائج كانت إلى حدٍ ما، دون الحد الأدنى من الثمار المرجوة بسبب الأداء المرتبك السيئ الذي أظهره قادة وممثلو الفصيل المتحكم في قرار وقف إطلاق النار على الجانب الفلسطيني في مفاوضات القاهرة (حماس). إن ذلك الأداء المرتبك المتذبذب بين التشدد إلى أعلى من السقف المتوقع وبين المرونة ودون الحد الأدنى الذي لا يجوز القبول بما تحته، هو الذي أفضى إلى تغليب هذه الكفة الأخيرة في مفاوضات القاهرة. ولا يفسر ذلك الأداء التفاوضي بضعف خبرة حماس التفاوضية فحسب، بل ولنزوعها الدائم للتفرد والإقصاء للفصائل والقوى المقاومة الأخرى، وخصوصاً في قطاع غزة الذي تهيمن عليه وتتفرد بحكمه رغم وقوعه عملياً بشكل غير مباشر تحت الاحتلال وحصاره الدائم.

وهكذا فإذا كانت مأساة الشعب الفلسطيني مع نتائج مفاوضات أوسلو هي من جراء تفرد «فتح» الفصيل الأكبر في منظمة التحرير عن بقية رفاقها في الفصائل الأخرى داخل المنظمة، فإن مأساة نتائج مفاوضات القاهرة أكثر مدعاةً للدهشة لأنها جاءت رغم وجود وفد فلسطيني موحد، ورغم وساطة ورعاية عربية مصرية منحازة للجانب الفلسطيني قياساً بالوساطة النرويجية في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

ومع أن «فتح» كانت تاريخياً أكثر الفصائل في رفع شعار القرار الفلسطيني المستقل، إلا أن انجذاب وخضوع كلا الفصيلين الكبيرين، «حماس» و «فتح»، إلى لعبة المحاور العربية والإقليمية المتصارعة على الساحة العربية، أضعف قوة أوراق الطرف الفلسطيني على طاولة المفاوضات، وذلك لما هو معروف بأن تلك المحاور تعمل أساساً لصالح حساباتها ومصالحها السياسية قبل مصالح الشعب الفلسطيني. وكل ذلك بدوره صب في إخراج ثمرة التفاوض غير مكتملة النضوج وغير كاملة بما يتيح لـ «إسرائيل» التنصّل من الصيغة المطاطة لوقف إطلاق النار وللمطالب التي وافقت عليها، والتي كان من أبرزها فتح المعابر الخمسة، وتصغير المنطقة الأمنية العازلة من 300 متر إلى 100 متر، وتوسيع حدود الصيد البحري من ثلاثة أميال إلى ستة أميال، والإفراج عن السجناء الفلسطينيين، وتنسيق السلطة الفلسطينية إعادة الإعمار مع المانحين الدوليين، في حين تم تأجيل مطالب جوهرية كالميناء البحري وإعادة بناء المطار إلى مفاوضات لاحقة بعد شهر من توقيع الاتفاق!

وإذا كانت تلك هي أبرز المآخذ على ما تمخضت عنه مفاوضات القاهرة، فإن ذلك لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن ينال مما تم تحقيقه من مكاسب سطرتها ملحمة الصمود البطولية لأهالي قطاع غزة وفصائل المقاومة جمعاء.

وبهذه الرؤية الموضوعية المتوازنة، يمكننا فهم حجم الانتصار الذي حققه الشعب الفلسطيني دون تضخيم من الانجازات كما فعلت «حماس»، ودون استخفاف وتهوين كما فعلت وتفعل القوى والنخبة المثقفة الانتهازية العربية التي تفرّجت على عذابات الشعب الفلسطيني، بل وتساوقت مع لغة العدو في تصوير الحملة العدوانية الإسرائيلية الوحشية على القطاع، بأنها تأتي في سياق الحملة العالمية على الإرهاب والتطرف اللذين تمثلهما «حماس» كامتداد لجماعة الإخوان، وأنها هي التي تسببت بتطرفها بمأساة جديدة لشعبها المعذّب.

ومن دون إدراك الفصيلين الكبيرين دور الوحدة في صنع ما تحقق على محدوديته، ودور التمسك بها وتعزيزها في استكمال ما ينتظر تحقيقه وإعادة بناء منظمة التحرير لتجسد تلك الوحدة تنظيمياً وديمقراطياً، فإن دروس وعبر التجربة التي تمخضت عنها ملحمة التصدي للعدوان ستمر من دون الاستفادة منها، وستظل مأساة الشعب الفلسطيني تجتر وتتناسل الأزمات من سيء إلى أسوأ.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4386 - الثلثاء 09 سبتمبر 2014م الموافق 15 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً