العدد 4396 - الجمعة 19 سبتمبر 2014م الموافق 25 ذي القعدة 1435هـ

أبو العز الحريري نموذجاً برلمانياً

رضي السماك

كاتب بحريني

في عالمنا العربي أن يفوز أي مرشح برلماني في الانتخابات في ظل حقبة من المد الجماهيري للتيار الذي ينتمي إليه، فذلك أمر عادي ويمكن فهمه، لكن أن ينجح مرشح يسبح عكس التيار فذلك استثناء بحاجة إلى وقفة من التأمل والتفسير.

بهذا المعنى شهدنا فوز شخصيات إسلامية مرموقة في ذروة المد القومي واليساري في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وشهدنا ونشهد فوز العديد من الشخصيات العلمانية الوطنية اليسارية في مختلف الدول العربية في ظل المد الإسلامي السائد منذ مطلع الثمانينيات، على سبيل المثال لا الحصر، خليجياً عبدالله النيباري وأحمد الخطيب وأحمد المنيس في الكويت، وعبدالنبي سلمان ويوسف زينل وعبدالهادي مرهون في البحرين. ولا يفسر فوز هؤلاء وأولئك من إسلاميين وعلمانيين سوى قوة أدائهم وبرامجهم ومكانتهم الاجتماعية في دوائرهم الانتخابية، فضلاً عن عراقة جذور تياراتهم في ترابهم الوطني.

في مصر رحل مؤخراً واحدٌ من تلك النماذج البرلمانية المشرفة، ألا هو المناضل اليساري المعارض أبو العز الحريري عن عمر لم يزد عن 68 عاماً، بعد أن كرّس الشطر الأعظم من حياته في النضال العنيد الذي لا يكلّ لمحاربة الدكتاتورية والفساد، في ظل رؤساء الجمهوريات الذين تعاقبوا على الحكم خلال حياته، ومن أجل نصرة الفقراء والكادحين والمستضعفين من شعبه.

كان طوال سيرة حياته ترجمة أمينة للمثقف العضوي اليساري غير النخبوي، أي المتّسق - حسب جرامشي - في نضاله بين ما يرفعه وما يؤمن به من شعارات وبين ممارسته على أرض الواقع، غير متقوقع أو منفصل عن الساحات الجماهيرية وهموم ومطالب الناس الآنية.

ومع أن الحريري خاض شتى معارك الساحات من عمالية وفلاحية وجماهيرية عامة، إلا أنه تميّز بوجه خاص بمآثره النضالية تحت قبة البرلمان منذ كان شاباً، فقد فاز في انتخابات 1976 في عهد السادات وعمره 32 عاماً، وكان أصغر نائب حينئذٍ يدخل مجلس الشعب، وجاء فوزه بعد معركة انتخابية شرسة نافسه فيها رئيس الوزراء ووزير الداخلية ممدوح سالم الذي قاد حملة القمع الشرسة للحركة الطلابية في أوائل السبعينيات، كما فاز في انتخابات 1984 رغم الحملة السلطوية المضادة لحملته، ورغم القيود التشريعية المشددة في النظام الانتخابي المعرقلة لانتخابات حرة نزيهة، ناهيك عن أعمال التزوير.

وفي البرلمان عُرف بلقب «النائب المشاغب» لتصديه بكل قوة وجرأة لكل الوزراء الفاسدين ودفاعه الذي لا يلين عن حقوق الشعب، خصوصاً الفقراء والفئات المحرومة. ولم يتوان عن مهاجمة الرئيس السادات والوقوف بكل شجاعة ضد صلحه المنفرد مع «إسرائيل» العام 1979، الذي أخرج مصر من حلبة الصراع العربي - الإسرائيلي، وكان ممن شملتهم حملة الاعتقال الجماعية التي ضمت خيرة مثقفي ومفكري وأدباء مصر من مختلف الاتجاهات في سبتمبر/ أيلول 1981، وهي الحملة التي كانت من أسباب اغتيال السادات بعد أسابيع قليلة، وتحديداً في ذكرى حرب أكتوبر.

انقطع الفقيد بعد ذلك عن العمل البرلماني ليتفرغ للنضال الميداني اليومي في الساحات العمالية والنقابية والشعبية العامة، ثم ترشح في انتخابات 2000 ليفوز فيها. وفي البرلمان خاض أشهر معاركه ضد الفساد عندما تصدّى لفضح واحد من أكبر رموز الفساد في عهد مبارك، ألا هو أحمد أبو العز القريب من جمال مبارك في القضية المعروفة بـ «حديد الدخلية»، حيث احتكر سوق الحديد بالكامل لحسابه. ثم فاز في أول انتخابات تشريعية بعد ثورة يناير 2011، ليشن في البرلمان حملات شديدة ضد المجلس العسكري الحاكم برئاسة المشير طنطاوي لنزعته الاستبدادية والتفافه على أهداف الثورة، وتعرّض غير مرة لمحاولة الاغتيال.

اختلف الحريري مع قيادة حزبه «التجمع التقدمي الوحدوي» حيث اعتبر تركيزها المفرط في الحملات الإعلامية ضد الإخوان المسلمين يأتي على حساب المهام النضالية الأساسية للحزب ويخدم نظام مبارك، واتهم حزبه بدخوله في صفقات مع النظام، رغم أنه لم يتوان عن نقد الإخوان طوال حياته السياسية وخصوصاً بعد تولي مرشحهم محمد مرسي الرئاسة. كما كان من أكثر المتصدّين في البرلمان وفي مدينته الإسكندرية لتحويل كل شواطئها وبلاجاتها إلى أملاك خاصة، وحرمان أهاليها من ارتيادها، ناهيك عن سائر المصريين الفقراء وذوي الدخول المحدود، وأسس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي.

وليس أدلّ على ما حظي به من مكانة جماهيرية، تشييع جنازته التي سار فيها ما يقرب من عشرة آلاف مشيّع، ومجلس العزاء الذي حضره لفيف متنوع من ألوان الطيف الشعبي والرسمي، وكان من أبرزهم محافظ الإسكندرية اللواء طارق مهدي، ومدير أمن الإسكندرية اللواء أمين عز الدين، ووزير التنمية المحلية عادل لبيب، وممثلون عن معظم الأحزاب السياسية، وابن الرئيس الأسبق عبدالحكيم جمال عبدالناصر الذي رثاه قائلاً: «كان أبو العز الحريري قيمة كبيرة خسرنا عطاءه الذي لا ينتهي»؛ وشخصيات دينية من أبرزهم إمام مسجد عمر مكرم الشيخ مظهر شاهين الذي أشاد في «الفيسبوك» بمناقب الفقيد ودوره المستميت وهو على فراش المرض وبتوصيته له من أجل إقامة معهد ديني أزهري في أحد الأحياء الفقيرة.

فما أحوج المرشحين للانتخابات والبرلمانين العرب لاستلهام تجارب مثل هذه النماذج البرلمانية الشريفة، في أدائها على الصعيدين الانتخابي والنيابي.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4396 - الجمعة 19 سبتمبر 2014م الموافق 25 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:40 ص

      نوابنا تفكيرهم في المع....

      وين النضال لمصلحة الشعب هؤلاء نواب عينهم على المع...... والتقاعد والسفرات الخارجية والوقوف ضد مصلحة الشعب

اقرأ ايضاً