العدد 4398 - الأحد 21 سبتمبر 2014م الموافق 27 ذي القعدة 1435هـ

شهادة طارق عزيز

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أن تكون سياسياً لا يعني أنك رجلٌ مهم. فأهمية السياسي تكمن في عوامل أخرى مضافة إلى كونه سياسياً. مثلاً، يلعب المكان والزمان دوراً محورياً في جعلك مهماً أو شخصاً عادياً. فحين تكون وزيراً في بوتان لا يعني أنك بذاتِ الوزن لو كنتَ وزيراً في بريطانيا، نظراً لاختلاف قوة ونفوذ وموقع وأهمية البلدين في المعادلات الدولية.

كما أن ظروف رئاسة الجمهورية في فرنسا خلال الأربعينيات من القرن الماضي (سنوات الحرب العالمية الثانية) لا تشبه ظروف رئاستها خلال حقبة الثمانينيات من القرن ذاته، إذْ لا مجال للمقارنة بينهما.

أيضاً، يلعب منصب السياسي دوراً آخر في تكوين منزلته. فمثلاً، أن تكون وزيراً للخارجية فأنتَ مختلف عن وزنك فيما لو كنتَ وزير دولة. فالاضطلاع على المهمات وأحجامها واتصالها بجهات ذات علاقة عادةً ما يُعطي المتصدي لها بعداً آخر في أهمية مركزه.

أُسقِط كل تلك الأمثلة على أحد سياسيي ومسئولي العراق السابقين وهو طارق عزيز. فهو ينطبق عليه كل ما يجعل منه رجلاً سياسياً مهماً. فهو أولاً وزير في بلد محوري. كما أنه كان مسئولاً في حقبة زمنية استثنائية جداً، حيث شَهِدَ الانقلاب الأبيض على أحمد حسن البكر، ثم الحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب تحرير الكويت، ثم الانتفاضة الشعبانية، ثم الحصار الظالم على العراق، وانتهاءً بسقوط بغداد.

فضلاً عن ذلك، فهو لم يكن وزيراً عادياً، بل كان وزيراً للخارجية ونائباً لرئيس مجلس الوزراء منذ العام 1979 ولغاية العام 2003، فضلاً عن مكانته الخاصة في نظام البعث، والتي تخطت كونه وزيراً في الحكومة، باعتباره عضواً متقدماً في الحزب.

على الدباغ، الناطق السابق باسم الحكومة العراقية، فَعَلَ شيئاً حسناً قبل خروجه من حكومة المالكي. فقد قَصَدَ طارق عزيز في مَحْبَسِهِ، وأجرى معه مقابلة خاصة «طوعية»، استمرت لعدة ساعات. مقابلة بعيدة كل البعد عن الظروف القانونية لعزيز.

كان هدف الدباغ كما أعلنه (وقد أصاب فيه) أنه أراد بتلك المقابلة، تدوين حقبة مهمة من تاريخ العراق، كون ميخائيل يوحنا أو طارق عزيز (78 عاماً) كان شاهداً على أحداث جِسام مرَّ بها العراق، ومرَّت بها المنطقة ككل، وهي تحتاج إلى حفظ وتدوين للتاريخ، ليس من أجل أحد بل من أجل الأمة العربية والشعب العراقي.

الحقيقة، أنني استمعت لما قاله عزيز خلال تلك المقابلة، وأدعو الجميع لأن يستمع إليها لأهميتها. وللوهلة الأولى، فإن التقييم الأوَّلي لتلك المقابلة، هو أن الرجل كان فيها واضحاً، على الأقل من خلال المواقف التي أبداها تجاه الأحداث السابقة.

فعلى رغم جدلية الحقبة التي عاش فيها، إلاَّ أنه لم يتنكَّر إليها ولا إلى أدائها. كما أن إجاباته اتسمت بالنسبية والفصل بين الحقائق ووجهات النظر. فحين تكون معلومة يقول بأنها معلومة، وحين تكون رأياً يقول بأنها رأي. وهو ما جعل شهادته أكثر مقبولية.

إلاَّ أن طارق عزيز أقرَّ أيضاً بضعف أعضاء القيادة الذين أحاطوا بصدام والتي أفضت إلى ضياع العراق، كما أقرَّ بأن احتلال الكويت كان خطأً جسيماً. وهو بالمناسبة رأي أسمَعَه لصدام قُبَيْل الغزو، وحدَّد مَنْ دفَعَ بهذا الاتجاه ومَنْ عارض في مجلس قيادة الثورة آنذاك.

قال عزيز كلاماً كثيراً كشاهد تاريخ، على تجربة البعث وعلى أدائه في الحكم، وصحَّح العديد من المعلومات التي يتداولها الإعلام منذ عشرين عاماً بشكل خاطئ (كما يراها هو)، كلقاء السفيرة الأميركية في بغداد إبريل غلاسبي بصدام وما دار فيه، وعن السلاح الكيميائي، ومواقف دول عديدة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأيضاً دول عربية وزعاماتها من الحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت.

لا أريد أن أسرد ما قاله الرجل، فالجميع يمكنه أن يستمع له، ولكن أنتهز فرصة حديثه كي أشير إلى أهمية تدوين التاريخ بالنسبة لأمتنا العربية. وهو هَمٌّ مع شديد الأسف غائب عنا، نتيجة المواقف السياسية والثقافية الحادة التي نتخذها عادةً تجاه المختلفين معنا سياسياً، والتي تجعلنا ندفن تاريخنا في التراب، بعد أن نُهَشِّم الصدور التي كانت حاملة له. وهو باعتقادي خطأ كبير، حيث أن الأجيال ستكتشف أن تاريخها مبتور.

من حق الساسة العراقيين الذين جاءوا إلى الحكم بعد الغزو الأميركي أن يحاسِبوا قضائياً (وبنزاهة) مَنْ أخطأ في الحقب المنتهية، لكن ليس من حقهم أن يطمروا تاريخهم وتاريخ أمتهم، وهو ما فعلوه مع كافة قيادات النظام السابق الذين حاكموهم وأعدموهم. كان بإمكانهم أن يُفرِغوا من تلك الصدور أسراراً لا تُقدَّر بثمن. أسرارٌ ربما تعطيهم دالةً على مَنْ أخطأ في حق بلدهم.

بالتأكيد فإن هذا الأمر لا ينطبق على العراق فقط بل على غيره من البلدان العربية أيضاً. ماذا لو قام الليبيون بأخذ شهادة القذافي بدل أن يُجهِزوا عليه بتلك الصورة البشعة؟ وماذا لو فَعَلَ المصريون ذات الأمر مع حسني مبارك؟ أكثر من ذلك، ماذا لو لَمْ تدفن الأنظمة الجديدة قيادات الأنظمة المنهارة بفعل الانقلابات سواء في سورية أو تونس أو ليبيا أو الجزائر أو السودان، واستنطقتها كي تُدوِّن تاريخها، بدل السَّحْل والتشفي؟

ماذا لو استمع حسني الزعيم لشكري القوتلي قبل أن يُنفَى. وماذا لو استمع هاشم الأتاسي لحسني الزعيم قبل أن يُعدَم. وماذا لو استُمِعَ لعبد الكريم قاسم قبل أن يُصفَّى بالنار، وكذلك الحال مع العائلة المالكة في العراق.

الحوادث التي هي على تلك الشاكلة لا تنتهي، لكن جزءًا من التاريخ العربي قد انتهى بنهاية هؤلاء حتماً، خصوصاً أن الذاكرة المحفوظة في الصدور (وبالتحديد في العالم العربي نتيجة حالة الشك الدائم في الأغيار)، تكون أكثر أهمية من تلك التي مُهِرَت على الورق. هذا الأمر خسرناه وسنخسر من ذاكرتنا أكثر إذا لم يُصحح. وكما قال الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش: بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4398 - الأحد 21 سبتمبر 2014م الموافق 27 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 4:45 ص

      للزائر رقم

      هؤلاء المجرمين كما تصفهم لا ينكرون ما قاموا به رغم تهديدهم بالاعدام والسجن وهذا يكفي لأن نصدق أعمالهم لتدوين تاريخنا وتفسير الغامض منه أو ذاك الذي أراد له البعض أن يغيب عن الاجيال

    • زائر 9 | 2:44 ص

      حسني مبارك لا زال حي يرزق وموجود

      يمكن اخذ منه عبرة للتاريخ اذا يمكن الاستفادة منها لما بعد ،يعني بالعربي بعدك لاحق .
      يا اخينا محمد فاقد الشئ لا يعطيه والا لانتفع منهم شعبهم وافادوا انفسهم لو كان هناك فعلا فكر وعقل يستفاد من هو اولى به ، ولكن المفلس لم ولن يطيك مليم واحد .

    • زائر 8 | 12:57 ص

      مقابله

      كلهم منافقين ومتملقين لاخر نفس لا السجن ولا غيره بغيرهم يعني ويش هالتاريخ اللي بنكتب من افواه وصدور هالكذابين

    • زائر 6 | 11:20 م

      صحيح

      رأي صائب

    • زائر 5 | 11:19 م

      رأي

      اهم متطلبات الكاتب المحترم هو تحرره وانفتاحه وانت كذلك استاذ محمد

    • زائر 3 | 11:04 م

      طارق عزيز مثقف

      طارق عزيز مثقف لكن حط يده في يد معتوه وهو صدام الذي ما إن إنتهى من إيران إلا وورط الشعب العراقي في غزو الكويت الشقيقة مجنون الغزو.

    • زائر 1 | 10:28 م

      وهل قال عزيز؟

      قرأت الكثير من المذكرات. كما استمعت لمقابلة طارق عزيز. لم اجد فيهم من يعترف باخطائه. عندما كان رئيسا لتحرير صحيفة الثورة اتهم أشخاصا كثيرون و اختفوا جميعا من الوجود او هربوا خارج العراق. منهم المحامي حيدر عبدالمجيد جاره في شارع الكندي مقابل معرض بغداد الدولي. طارق هذا و أمثاله هو ممن يقولون للقائد : نعم سيدي مهما فعل و يورطونه. كل همهم حفظ مصالحهم. لو كانو يعتبرون من التاريخ كان هذا أولهم.

اقرأ ايضاً