العدد 4403 - الجمعة 26 سبتمبر 2014م الموافق 02 ذي الحجة 1435هـ

في ذكرى رحيله... جمال عبدالناصر بين الشمولية والديمقراطية

رضي السماك

كاتب بحريني

44 عاماً مرت على رحيل الزعيم العربي جمال عبد الناصر وما برح الحديث يتجدد، مصرياً وعربياً، مدحاً أو ذماً أو بين بين، حول شخصية هذا الرجل القيادية الفذة التي قلّ نظيرها في تاريخ العرب المعاصر.

ويمكن تقسيم من تناولوا ومازالوا يتناولون شخصيته إلى ثلاث فئات: الأولى هي التي تناولته بالمدح والإعجاب الشديدين اللذين وصلا إلى ما يشبه التقديس، والثانية هي التي لم تر فيه سوى صورة للشر المطلق والسلبيات والإخفاقات الجمّة طوال حكمه الذي استمر نحو عقدين (1952-1970)، أما الفئة الثالثة فهي التي حاولت أن تتوخّى أكبر قدرٍ ممكنٍ من الموضوعية، بالموازنة بين سلبياته ومنجزاته.

وغنيٌّ عن القول أن هذه الفئة الأخيرة هي الأقرب إلى العقلانية والتقييم الموضوعي لشخصية عبد الناصر القيادية.

وإذا أمكن فهم العاطفة الجامحة التي أطلق محبوه العنان لرفعه إلى المنزلة التقديسية دونما حدود، ولئن أمكن أيضاً فهم منطلقات من لم يروا في حكمه أية إيجابية تذكر، إما انطلاقاً من تضررهم من الاجراءات والسياسات التي طاولت مصالحهم السياسية والاقتصادية والطبقية في مصر على أكثر من صعيد، وإما انطلاقاً من قناعات مبدئية فكرية ليبرالية تصطدم مع نهج عبد الناصر الفكري الأقرب إلى اليسار والاشتراكية وانحيازه إلى الطبقات الفقيرة والمهمشة؛ فإن ما لا يمكن فهمه انضمام فريقٍ من الكتاب إلى الفئة الأخيرة من الكتاب والباحثين العرب من موقع الفكر اليساري “المتلبرل”، إن جاز التعبير، بعدما كانوا طوال الحقبة الناصرية من أكثر مقدّسي التجربة الناصرية ودفاعاً عنها بلا حدود في وجه خصومها ومنتقديها المعتدلين منهم والمغالين.

ينطلق اليسار “الليبرالي” الجديد في نقده لشخصية عبد الناصر من الأفكار الجديدة التي اعتنقوها حديثاً والتي تتصل بمجملها بمنظومة القيم العالمية المتصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والفصل بين السلطات، وإتاحة التعددية الحزبية وحق تداول السلطة... إلخ. ويرون أن النظام الناصري لم يكن سوى نظام دكتاتوري شمولي لافتقاره إلى تلك المنظومة من القيم والمبادئ الديمقراطية المتوافق عليها عالمياً، والتي تشكّل خلاصة تطوّر الفكر البشري نحو الحرية والعدالة والمساواة.

وإذ لا ينازع أحد هذا الفريق في تصنيف الرجل كحاكم أو قائد شمولي بالمعايير النظرية المجردة للشروط المبغي توافرها في القائد والنظام الديمقراطيين، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يصح تقييم الرجل تقييماً تنظيرياً مجرداً، بعيداً عن الخصائص السياسية والثقافية والتاريخية لمجتمع بلاده الذي عاش في ظله الرجل، وبعيداً عن ذات الخصائص للبلدان العربية عموماً؟

القائد الشمولي، كما نعرف، هو الدكتاتور المكروه شعبياً، والذي يكاد رصيده وسجله طوال حكمه خالياً من أية إنجازات تذكر، بيد أن عبد الناصر لم يكن ينظر إليه كذلك، لا من شعبه ولا من أمته العربية. نقول هذا دون أن ننكر بطبيعة الحال سلبيات وإخفاقات حكمه في المجال الديمقراطي، التي أودت بمشروعه ونظامه غداة نكسة 1967. ولتأكيد هذه الحقيقة الملتبسة على الكثيرين، نطرح هنا جملةً من التساؤلات التي تجيب بنفسها على نفسها:

- هل يصح وضع دوره التاريخي في قيادة ثورةٍ حرّرت مصر من الاحتلال والاستعمار في خانة الشمولية والدكتاتورية؟

- ماذا يعني دور عبد الناصر في حمل المستعمر البريطاني على توقيع اتفاقية الجلاء العام 1954 لسحب كامل قواته من الأراضي المصرية؟

- ماذا يعني دوره في إفشال أهداف العدوان الثلاثي 1956؟ هل نفسر مثلاً تصدّيه للعدوان بأنه كان تصدياً لثلاث دول “ديمقراطية” أرادت من حربها على مصر “تحريرها” من حاكم شمولي؟ أم هي حرب عدوانية لتحقيق مصالحها فقط ولا شيء سواها؟

- كيف نفهم رفع صوره من قبل أعداد غفيرة من جماهير ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013؟ بل وماذا يعني هذا التهافت الشبابي في منتصف التسعينيات على مشاهدة فيلمه “ناصر56” حتى بلغ عدد مشاهديه خلال الأسابيع الثلاثة الأولى فقط أكثر من مليوني مشاهد؟ رغم أن الفيلم لا يتناول سوى فترة قصيرة من بطولات عبد الناصر كقائد سياسي خلال تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي.

- بماذا نفهم غياب النزعات الطائفية والعرقية، أو كمونها، ليس في بلاده مصر فحسب، بل وفي كل الأقطار العربية طوال زعامته القومية؟ وبماذا نفسر صدور أول فتوى دينية تاريخية من نوعها في عصرنا خلال حكمه، وبالتزامن مع فترة الوحدة مع سورية، بجواز التعبّد بثاني مذهب إسلامي من حيث الانتشار (الجعفري) والتي صدرت عن شيخ الأزهر محمود شلتوت أواخر الخمسينيات؟ هذا في حين نعرف لا يوجد مستبد شمولي في العالم لم يجرّب سياسة “فرّق تسد”، بين مكوّنات شعبه حيثما شعر بخطورة توحدها ضد حكمه.

- قامت ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر العام 1952 ومعظم الأقطار العربية مازالت تحت الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ولعبت مصر الناصرية دوراً تاريخياً في دعم كل حركات التحرر الوطني العربية من ذينك الاستعمارين، بل وامتد دعمها لحركات التحرر في العالم الثالث، وعلى الأخص في أفريقيا. فبماذا نفسر دعمه لشعوب من أجل انعتاقها من مستعبديها؟ فهل نضع كل ذلك الدعم التحرري في خانة الشمولية؟

- ماذا يعني تمكّنه من تحقيق تنمية اقتصادية مستقلة، وإن تعثرت لاحقاً، وكان من أبرز منجزاتها السد العالي بدعم سوفياتي، وصناعة الحديد والصلب وغيرها من الصناعات الثقيلة والتحويلية؟ ناهيك عن مجانية التعليم وازدهار أخصب فترةٍ للثقافة والفنون في ظل حكمه.

-بماذا نفسّر دوره التاريخي في تأسيس منظمات وتكتلات إقليمية مهمة، مثل عدم الانحياز، ومنظمة الوحدة الأفريقية، ومنظمة التضامن الأفرواسيوي التي كان لها دور في دعم قضايا العرب وفي مقدمتها القضية الفلسطينية؟

- هل حدث طوال تاريخ العالم الحديث أن تمتع “قائد شمولي” بدعم جماهيري عارم بالملايين فور إعلان تنحيه عن الحكم إثر هزيمة عسكرية ماحقة لبلاده اعترف بشجاعةٍ بمسئوليته عنها؟ فبماذا نفسر إذاً خروج تلك الملايين وتمسّكها ببقائه؟

-بماذا نفسّر ذمته المالية النظيفة ومعيشته البسيطة طوال حكمه، وهي الحقيقة التي أجمع عليها أعداؤه قبل أصدقائه؟ ونحن نعرف اقتران الفساد عادةً بالاستبداد والدكتاتورية.

-وهل خرج في تاريخنا العربي المعاصر طوفانٌ من الجماهير الملايينية خلف جنازة قائد “شمولي” ليس في بلاده فقط بل وفي كل العواصم العربية دون استثناء سوى جنازة عبد الناصر في سبتمبر 1970؟

بكل تلك المعاني لخصوصية عبد الناصر، قائداً شعبياً مصرياً، وقائداً عربياً قومياً، ولسمات المرحلة التاريخية التي عاشها وعاشتها معه الشعوب العربية جمعاء، يمكن القول أنه كان ابن عصره ونسيج وحده بكل معنى الكلمة، ولا يمكن تصنيف الرجل تصنيفاً تنظيرياً، والنظر إليه مجرد “حاكم شمولي”، ومن ثم تجريده من كل الايجابيات والمنجزات الكبرى التي حقّقها حتى بمعاني الحرية بمفهومها الأوسع لا النظري الضيق، كما يحصره منظرو الليبرالية الرأسمالية، وبالتالي لا ينبغي تقييمه بمعزلٍ عن الملابسات والسمات التي طبعت عصره العربي وليس بوعينا الحاضر لمفاهيم الشمولية والديمقراطية، فله ما له، وهو عظيم الشأن، كما رأينا، وعليه ما عليه.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4403 - الجمعة 26 سبتمبر 2014م الموافق 02 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:10 ص

      الأفلاس

      الأفلاس والجهل السياسي يؤدي دائماً إلى اختراق التاريخ وتزويره وحرقه دون أية اعتبارات أخلاقية وإنسانية ....س.د.

    • زائر 1 | 1:37 ص

      الله يرحم جمال عبدالناصر

      زعيم بمعنى الكلمة، كان همه الاول مصر وشعبه. مو مثل .......................!!

اقرأ ايضاً