العدد 4434 - الإثنين 27 أكتوبر 2014م الموافق 04 محرم 1436هـ

ثراء عاشوراء الجميل

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

نشهد هذه الأيام إحياء ذكرى عاشوراء، وفيه تتجدد مظاهر حراك اجتماعي وثقافي وديني سنوي يتسم بالتنوع والثراء، وتزداد فيه بشكل ملحوظ مظاهر التضامن والتماسك الاجتماعيين.

يوم كنا أطفالاً، أتذكر كم كانت ذكرى عاشوراء آسرةً وساحرةً بأجوائها الاحتفائية المدهشة. لقد كانت فرصةً لمزاولة كل أنواع شقاوتنا البريئة مستغلين انشغال ذوينا الكبار بخدمة الحسين.

وكان المدى الأخضر يبتلعنا، بنخيله وأشجاره الظليلة، فيما صوت الناعي يتهادى من مكبرات الصوت مخترقاً الأثير بنغمه الشجي زارعاً فينا ذوقاً أدبياً رفيعاً وإيماناً حلواً بآل البيت شببنا عليه ونتمنى أن نشيب.

طقوس الاحتفال السنوي هذه كانت تغمر الناس بصفاء روحي غريب، وكانت حرارة الإيمان تحرّك الرجال والنساء والشباب والشيوخ إلى المشاركة في خدمة المعزّين بيقين وطمأنينة وكثيرٍ من الزهو، وعندما نقول المعزّين فإننا نقصد مجتمعاً بأسره تجمعه الدمعة والعواطف المشبوبة في ذكرى رحيل ريحانة ابن بنت النبي صلى الله عليه وآله.

عاشوراء أكثر من مجرد دمعة. إنّه مشروع تغيير وإرادة متجدّدة في الفرد وفي المجتمع، وإذا كان شاع في الماضي أن الحسين عَبْرة وعِبْرة، فإن عاشوراء تمثل اليوم لحظة وعي مجتمعي تتجاوز حدود وأطر الانتماء العقائدي، وتنفتح على القضايا والهموم الإنسانية الكبرى. إنها محطة تنطلق فيها الطاقات المبدعة والخلاقة للموهوبين والفنانين والشعراء والمخرجين السينمائيين والرواديد والمصورين والكتّاب، والتي تعيش في غير هذا الموسم شيئاً من الخمود والهمود.

عاشوراء في الواقع مؤتمرٌ سنوي مفتوح الأرجاء فسيح الجنبات، المتحدّثون فيه كثر، وأكثر منهم بالطبع أولئك الحريصون على التواجد في فعالياته عبر المشاركة والحضور والتفاعل مع قضاياه المطروحة في المنبر والموكب، وبين مقاعد الحضور الغفير في المآتم الغاصّة بمرتاديها.

عاشوراء موسم العطاء والبذل بامتياز، تشاهد فيه الأحاسيس الإنسانية الجميلة التي تحسبها متناقضةً، فرح الناس واشتياقهم لذكرى سيد الشهداء، والحزن العارم الذي يُشعل القلوب على مدى ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن، عند تذكر مأساة كربلاء واستعادة تفاصيلها المروعة. لهذا لا تعدم أن ترى هذه النفوس الوالهة ضحوكة السن مشبوبة العواطف واسعة النفس سخية العطايا... فـ

ضحوك السن يطرب للعطايا

ويفرح إن تعرّض بالسؤال

هذا الحراك الاجتماعي الذي يتكثف بصورة واسعة جداً في عاشوراء لا يوازيه ويسنده جهد معرفي يشرح ويفسّر ويدرس ويحاور، وهذا الغياب هو ما سمح ويسمح بظهور تأويلات متهافتة أو تافهة حيال مراسم إحياء ذكرى عاشوراء سنوياً.

فلقد خضعت نظرة الدارسين للتشيع ولعلاقة الشيعة بالحسين إلى تحليلات سطحية باردة، حتى انساق الكثير من الباحثين المحدثين وراء مقولات استشراقية استلهمت أفكاراً قديمة ساذجة في التحليل النفسي لسلوك الجماعات، وربما كان أبرز هذه الأفكار، إشهار مقولة «العقد النفسية» وعقدة «الإحساس بالذنب» وعقدة «الاضطهاد التاريخي» التي آلت إلى «اصطباغ أدبهم (أي الشيعة) بالحزن العميق والنوح والبكاء وذكرى المصائب والألم» كما كتب المصري أحمد أمين (ت 1954).

لم تقتصر المسألة في تفسير الأدب الشيعي الغزير، على أساس هذه الأفكار والمقولات الجاهزة المستمدة من تحليلات ساذجة وفجة في علم النفسي التقليدي، بل راحت تُفسّر مجمل السلوك السياسي والاجتماعي والثقافي للشيعة وفق هذه المقولات. ففي مثال كالذي أطلق عليه أحدُ الدارسين «الحفر السيكولوجي»، جاءت نتائج بحثه للشيعة والتشيع أكثر بؤساً وفقراً حتى من دراسات الباحثين التقليديين من عرب ومستشرقين ممن سبقوه في تناول الموضوع. (محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته). ولقد تسرّب هذا الطرح الساذج من نطاق الدراسات العلمية إلى لغة الإعلام المسموع والمرئي والمقروء في العالم العربي، بحيث بتنا نشهد لغة هابطة متخمة بمختلف أصناف الاتهامات والتجديف ضد الشيعة والتشيع يعج بها الفضاء الإعلامي.

إذا كانت مقولة العقد النفسية، وعقد الإحساس بالذنب وعقدة الثأر، وعقدة الاضطهاد التاريخي وغيرها تقدّم فرضيات محتملة لتفسير سلوك إنسان غير سوي، أو مجموعة من الأفراد الشواذ، فإنها بالتأكيد لا تقوى على تفسير سلوك طائفةٍ إسلامية يبلغ نفوسها الآن ربع مجموع المسلمين، مع كل ما يحفل به تأريخها الاجتماعي والثقافي والسياسي من ثراء وتعقيد، لكنه الانبهار الساذج ببعض الدراسات الغربية وسطحية الاستعارة لمقولاتها المعلبة.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4434 - الإثنين 27 أكتوبر 2014م الموافق 04 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 7:44 ص

      ربع المسلمين !!

      ربع المسلمين !! كأنها قوية شوي يا سيدي الكريم ؟

    • زائر 3 | 6:35 ص

      بوركت

      لك الشكر والتقدير على مقالاتك الرائعة

    • زائر 1 | 1:11 ص

      شكر للكاتب الولائي

      فأنت فعلاً طرحت موضوع يستحق الوقوف عنده للتركيز عن نقطة هامة التي عملت على تلخيصها بتنسيق وتركيب مهم جدًا لتوصيل رسالة لأصحاب النفوس الحائرة وفي انتظار مقالاتك القيمة دمت في خير (بنت الموسوي)

    • wessam abbas زائر 1 | 9:57 ص

      شكرا

      شكرا لكم.. مروركم شرف

اقرأ ايضاً