العدد 4469 - الإثنين 01 ديسمبر 2014م الموافق 08 صفر 1436هـ

الدستور وعلماء الدين... طموحات الشرق نحو النهوض

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

في مطالع القرن الماضي كانت مطالب التحرّر من الاستعمار والدكتاتوريات التي كانت تخنق بلاد الشرق... عنواناً عريضاً تتحد حوله الشعوب العربية بمختلف مكوناتها الدينية والمذهبية والسياسية. فقد كان هاجس التحرر والعدالة يعلو على كل الحساسيات، والأمة حينها تخوض معركة استعادةٍ لسيادتها وكبريائها المهدورة.

جذور حركة المطالبة بالدستور والمجلس التشريعي تعود في الواقع إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. والبداية كانت في إيران وتركيا فالعراق. وقتها كان العراق واحداً من أقاليم الدولة العثمانية تابعاً لها سياسياً وإدارياً واقتصادياً، فلم تنشأ فيه حركة دستورية إلا بعد نموها وانتشارها في الدولة الإيرانية القاجارية.

وقد كان لإيران علاقات سياسية ودبلوماسية واقتصادية وثقافية مع أوروبا، ما أدّى إلى ورود أفكار تحررية ونشوء تيارات تطالب بالدستور والبرلمان. فقد أرسلت الحكومة مجموعات من طلاب البعثات للدراسة في بريطانيا عامي 1811 و1815، وبعد عودة هؤلاء الطلاب بدأوا يتحدثون عن مبادئ الثورة الفرنسية وحرب استقلال الولايات المتحدة والقوانين التي يصدرها مجلس العموم البريطاني وصلاحيات البرلمان البريطاني وطريقة انتخاب نواب المجلس. وهكذا انتشرت مفاهيم حرية التعبير وحرية الصحافة تدريجياً، وبدأت الأصوات ترتفع بإحداث تغييرات في النظام السياسي الإيراني يشابه ما كان يحدث في أوروبا.

وكان للدستور الروسي الذي وضع العام 1905 تأثير كبير على إيران بحكم الجيرة والعلاقات المشتركة بين البلدين. وحتى العام 1910 كان هناك أكثر من مئتي ألف إيراني مهاجر يقيمون في روسيا، عاد منهم الآلاف في العام 1905 وهم يحملون أفكاراً إصلاحية وبوسترات ودعايات من أجل مواجهة النظام الدكتاتوري الإيراني. وفي الأثناء كانت أفكار الديمقراطية ومصطلحات الدستور والبرلمان تتعزّز وتنتشر بالكتابات والمؤلفات السياسية، وكان يجري ترجمة العديد من الوثائق والمؤلفات السياسية إلى اللغة الفارسية.

لم تكن الأفكار التي حملها المتنورون والمثقفون وحدها بالطبع هي التي حرّكت الساحة الفكرية والسياسية في الأوساط الشيعية، بل إن علماء الدين من حملة الأفكار الإصلاحية الذين واجهوا حالة الظلم الداخلي والاستعمار الخارجي، هي التي أعطت زخماً لتلك الأفكار، لما لعلماء الشيعة من تأثير ونفوذ على أتباعهم.

وقد برز فقهاء وعلماء كبار ممن ساهموا في نشر أفكار التحرّر من الاستبداد ومواجهة الظلم، وطرحوا بدائل جديدة لم تكن متداولةً في النظم السياسية في الشرق والعالم الإسلامي. وكان السيد جمال الدين الأفغاني (ت 1897) من زعماء الإصلاح الكبار في القرن التاسع عشر ممن دعوا إلى تأسيس الحكومات الإسلامية وفق النظم الحديثة، من خلال تدوين دستور وتأسيس مجلس شورى منتخب من قبل الأمة. وكان لاطلاعه الواسع واحتكاكه بالحضارة الغربية وفكره الثاقب، دورٌ في تقديم مشروع إسلامي ينهض بالأمة الإسلامية من حالة الركود والتخلف، فكان مشروع «الجامعة الإسلامية» الذي عرضه على السلطان عبدالحميد الذي ازداد منه خوفاً، وكان ينادي بالوحدة الإسلامية ومحاربة دكتاتورية الحكّام والجهل عند المسلمين، وتسرب العقائد الخرافية إلى أفكار المسلمين، ومحاربة الفرقة المذهبية ومواجهة الاستعمار الغربي.

وكان الأفغاني يجول في البلدان الإسلامية ويطرح أفكاره في محاضراته وندواته واجتماعاته مع الناس والمثقفين والعلماء والسياسيين ورجال الدولة. وكان ينتهز فرص لقاءاته المتعددة مع الملوك والحكام فيحثهم على أهمية احترام رأي الشعب وتمثيله في مجلس تشريعي، وقد قام بتدوين مسودة دستور قدّمه إلى شاه إيران ناصر الدين القاجاري، جعل فيه إيران دستورية يخضع الشاه فيها إلى الدستور ومجلس الشورى الذي يملك صلاحيات إصدار القوانين، فلما طالعه الشاه رفضه معترضاً على مساواته بالعامل والفلاح.

وفي مصر حمل الأفغاني مشروعه الإصلاحي حيث قابل الخديوي توفيق، وعرض عليه إصلاح الأوضاع السياسية والقانونية عبر إشراك الشعب في صنع القرار، وإدارة شئون البلاد من خلال صياغة دستور جديد وتأسيس نظام نيابي، فأمر الخديوي بطرد الأفغاني وتسفيره على ظهر أول باخرةٍ متوجّهةٍ إلى الهند!

وعندما أعلن الدستور في إيران في أغسطس/ آب 1906، أثار ذلك صراعاً طويلاً بين الدستوريين وخصومهم، وانعكس هذا الصراع في العراق، وكان الدستوريون يدركون تماماً أن نجاحهم يتوقف على كسب كبار علماء الدين المجتهدين إلى جانبهم، وفي النهاية انتصروا بفضل انحياز المرجعية العليا للشيخ محمد كاظم الخراساني «الآخوند الخراساني» (ت 1911) إلى جانبهم. الشيخ الآخوند الذي كان المجتهد الأول في النجف الأشرف، كان قد أصدر فتواه التي تعتبر أن الخروج على الدستور هو بمثابة الخروج عن تعاليم الإسلام نفسه، وقد أيّده في فتواه عدد من المجتهدين الآخرين. وعندما أعلن الدستور العثماني الثاني أرسل الخراساني بالنيابة عن مجتهدي العراق برقية إلى السلطان العثماني عبدالحميد يطالب فيها بالاعتراف بالدستور كفرضٍ ديني.

ولقد سار الشيخ محمد تقي الشيرازي (ت 1920) على نهج سلفه الشيخ الخراساني؛ فكان نصيراً قوياً للحركة الدستورية في إيران وتركيا. وبعد العام 1918 اشترك علناً في النشاط السياسي، وكان عاملاً رئيسياً في الحركة المناوئة للإنجليز.

كذلك كان للشيخ فتح الله الشيرازي الأصفهاني النجفي «شيخ الشريعة» (ت 1919) نشاط في الجهاد ضد الإنجليز، وكان من أبرز مناصري الدستور الأشدّاء.

ولا يمكن إغفال المساهمة الريادية للشيخ محمد حسين النائيني (ت 1936) الذي كان من أهم وأكبر الدعاة الذين ساندوا الحركة الدستورية، ودعموها ليس بالمواقف والفتاوى فحسب، بل بكتابة أهم كتاب في التأصيل الفقهي للمشروطة ودافع عن الحكم الدستوري، وهو كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، والذي يُعد اللبنة الأولى التي تأسس عليها الفكر السياسي الشيعي الحديث والمعاصر، حيث قدّم النائيني تحليلاً دقيقاً للإستبداد، وكشفاً لمساوئه ودفاعاً عن حقوق الأمة السياسية.

وهنا يظهر الإسهام الفعّال للعلماء وفتاواهم السياسية التي خلقت جواً جديداً في أكثر من بلد، وذلك في معترك النضال الوطني في مواجهة المستعمر الأجنبي، ثم تالياً في مسيرة الكفاح من أجل تكريس العدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي، ومكافحة الدكتاتورية والحكم المطلق.

كان لابد من الإشارة لهذه الملاحظات السريعة، لنؤكّد أن نخبةً من علماء الدين كانوا ولازالوا يشكلون رافعةً ثقافيةً ونهضويةً في الإصلاح السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية، كما أن فاتورة المواقف المنحازة لطموحات الشعوب قد لا تكون زهيدة التكاليف من حياة الشعوب وحياة قادة التغيير على حد سواء.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4469 - الإثنين 01 ديسمبر 2014م الموافق 08 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:55 ص

      شكرا استاذ وسام

      سرد تسلسل النقاط التاريخية في المقال ممتاز يعطي تصورا واضحا للقارئ.
      قراءة ما بين سطور المقال تكشف عمل الاستعمار في التفرقة القومية والطائفية خلال القرن الماضي، فترى أنه مع بدايات القرن الماضي لم يكن لدى العثماني ازدراء من العالم الفلاني لأنه شيعي أو أفغاني، لم تجد العراقي يرفض العالم لأنه خراساني أو نائيني أو شيرازي أو أصفهاني.
      نقطة تستحق التأمل.

    • زائر 1 | 11:37 م

      ايران أساس كل المفاسد

      ايران أساس كل المفاسد لم تعرف الأمة الخير من ايران أبداً فهي بلد الشر و الفتن و الدجل

    • زائر 3 زائر 1 | 3:40 ص

      مداخلة مفيدة

      مداخلة مفيدة وتكشف عن طريقة منظمة في التفكير السياسي الناضج

اقرأ ايضاً