العدد 4477 - الثلثاء 09 ديسمبر 2014م الموافق 16 صفر 1436هـ

المجلس الأعلى للأجور في البحرين ضرورة مجتمعية (3)

عبدالله جناحي comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من واقع المستجدات والتطورات الاقتصادية الراهنة وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية الرأسمالية التي بدأت مقدماتها بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية وتداعياتها المباشرة على القطاع المصرفي وتأثيراتها المتلاحقة على القطاعات الاقتصادية الأخرى ليس فقط في الولايات المتحدة الأميركية بل في عموم الدول الرأسمالية المتقدمة ودول الأطراف ومنها الدول العربية.

ودون التعمق كثيراً في التاريخ الاقتصادي للرأسمالية والاكتفاء بالمحطات الكبرى للرأسمالية عند أزماتها المفصلية سواء الكساد العالمي في العشرينيات من القرن الماضي أو أزمات الانهيارات المتعاقبة في أسواق البورصات والعملات الصعبة أو بروز ظاهرة جديدة التي سميت بالركود التضخمي.

من واقع هذه المستجدات يتضح مدى التدخل الحكومي في الاقتصاد وقيام الدولة في إنقاذ اقتصادياتها، بل واستفادة النظام الرأسمالي من الآليات الناجعة للتدخل الحكومي سواء في توفير مظلة حمائية تأمينية للعاملين أو تشكيل صناديق التعطل أو تصحيح الأسعار أو تعديل الأجور والرواتب. الأمر الذي يدحض أطروحة وجود اقتصاد حر وأسواق حرة لا تدخل حكومي في آلياتها وتصحيح أعوجاجاتها.

إن التدخل الحكومي الضخم في الأزمة الاقتصادية الراهنة عبر ضخ مئات المليارات من الدولارات من أموال دافعي الضرائب ومن خزانة الدولة لصالح إنقاذ المصارف والشركات الخاصة، أو إجراءات التأميم الجزئي لهذه المؤسسات الضخمة في هذه الدول الرأسمالية يكشف ليس فقط على المسئولية الكبيرة للحكومات وأصحاب الأعمال في إنقاذ المؤسسات المالية والمصرفية وغيرها، بل يعني ذلك أيضاً أهمية التدخل في تصحيح الأجور والرواتب للعاملين سواء في القطاع الحكومي أو في مؤسسات القطاع الخاص.

فمثلما تقوم الحكومات بضخ المليارات من الأموال العامة لإنقاذ مؤسسات القطاع الخاص فإنها مطالبة بالتالي بدعم مستوى الدخل للمنتجين من العاملين في هذه القطاعات من دافعي الضرائب.

ومن هنا تقوم فلسفة وجود هيئات ومجالس عليا ثلاثية الأطراف لمراجعة مستويات الأجور والرواتب، وهي فلسفة أصبحت أكثر من ضرورة بعد تكرار الأزمات الاقتصادية عالمياً وتكرار التدخلات الحكومية في الأسواق الحرة!

البعد الآخر لأهمية وجود مثل هذه المجالس يتمثل في رؤية الدول للعلاقة بين عمليتي النمو والفقر، حيث إن السياسات الحكومية التي تؤمن بالبرامج الاقتصادية الاجتماعية ترى بأن الربط بين القضاء على الفقر والنمو الاقتصادي لابد أن يتحقق عبر سياسات تدخل مباشرة موجهة للفقراء وتتمركز بشكل أساسي في دعم الأجور وتحديد الحد الأدنى بجانب توفير التعليم والخدمات الصحية المجانية.

إن ربط الفقر بالنمو الاقتصادي لن يحقق نجاحه إذا ما تم التركيز فقط على برامج موجهة للحد من ظاهرة الفقر عبر المساعدات الاجتماعية وعلاوات الغلاء وغيرها، وإنما أيضاً خلق وظائف ذات الأجور المجزية.

ومن أجل نجاح هذه السياسة الاقتصادية الاجتماعية لابد من مراقبة ومراجعة مستويات الأجور ودعم الفئات ذوي الأجور المنخفضة ليتم التوزيع العادل لثمرة النمو الاقتصادي على جميع فئات المجتمع.

المفاوضات الجماعية:

إذا كانت التدخلات الحكومية في النظام الرأسمالي لإنقاذ المؤسسات الخاصة تنفذ في لحظات الأزمات الاقتصادية الكبيرة، فإن التدخلات المطلوبة في تصحيح وتعديل مستويات الأجور والرواتب تحتاج إلى آليات مستدامة ومُقوننة ومتفق عليها وأهمها تعزيز مبادئ المفاوضة الجماعية بين الاتحادات النقابية العمالية ومنظمات أصحاب الأعمال والحكومات، بحيث تكون هذه المبادئ تعتمد على قناعة جميع الأطراف بضرورة انسجام الأجور والرواتب مع المتغيرات الاقتصادية سواء التضخم الدوري ومستويات الأسعار، أو بروز احتياجات مجتمعية جديدة تفرض تغيير في سياسات الإنفاق العائلي أو العام، أو تأثير الأزمات العالمية كأزمة الغذاء وارتفاع أسعار النفط وتأثيرات التضخم المستورد على مستويات الدخل للعاملين.

ومن جانب آخر، فإن المفاوضة الجماعية المعتمدة على شفافية وصحة البيانات والإحصاءات المفترض توفرها من قبل الحكومات أو منظمات أصحاب الأعمال والمتعلقة بالموازنة العامة والإيرادات والناتج القومي ومستويات التضخم وارتفاع الأسعار والإنتاجية وأرباح الشركات وغيرها، من شأن ذلك وصول جميع أطراف الإنتاج إلى توافق حول تعديل مستويات الأجور والرواتب من واقع هذه المتغيرات الاقتصادية، بالإضافة إلى تحليل بيانات سوق العمل.

وحيث يتم التوافق على التوقعات المستقبلية سواء لنسب التضخم وارتفاع الأسعار والفوائض المالية والإنتاجية ومقارنتها بالقوة الشرائية للعاملين وصولاً للأجر العادل المطلوب.

التدخلات في تعديل مستويات الأجور:

رغم التوافق بشأن إدخال كل العوامل الاقتصادية المتقدم ذكرها إلا أن المسألة المهمة التي تتمركز حولها المفاوضة الجماعية بشأن تصحيح الأجور هي علاقتها بالقدرة الشرائية، حيث تقوم الهيئات والمجالس العليا للأجور في دراسة الكتلة الأجرية لكل قطاعات الاقتصاد الوطني ومقارنتها بالسنوات الماضية.

ودراسة مقارنة بشأن الاعتمادات المخصصة للأجور في الموازنة العامة ونسبة الأجور من الناتج الإجمالي المحلي وانخفاضاتها أو ارتفاعها وصولاً إلى تحديد نصيب الأجور من القيمة المضافة الإجمالية وعلاقتها بالتالي بالقدرة الشرائية.

وبالآلية ذاتها تتم دراسة النتائج في القطاعات الصناعية والخدماتية الخاصة للوصول إلى تحديد الأجور الدنيا (الحد الأدنى للأجور) وهو المفصل الأساس من مهمات المجالس العليا للأجور.

الحد الأدنى للأجور:

تأتي أهمية وجود هيئات ومجالس عليا للأجور للوصول إلى تحديد الحد الأدنى للأجور، وتنبع أهمية مثل هذه المجالس في قدرتها على تنظيم وتحديد قاعدة المعلومات المطلوبة من إحصاءات وبيانات وآليات قانونية واضحة للمفاوضة الجماعية.

وحيث إن تحسين المستويات الدنيا للأجور كهدف من الممكن أن تكون آليات تنفيذه تثمر نتائج سلبية تشدّ الأجور نحو الأسفل - كما حدث في بعض الدول - أو تشد الأجور نحو الأعلى كما حدث في بعض الدول الناجحة في هذا المقام.

وهذه المجالس هي من أنجح الآليات التي تحقق وتعمل لرفع مستويات الأجور وتكون بمثابة رافعة مؤثرة لتحسين مستوى المعيشة للفئات الضعيفة في المجتمع، حيث إن وجودها تمثل وجود آليات ضرورية تحتاجها الأسواق كالرقابة المطلوبة على سوق العمل والأداء الاقتصادي للقطاعات ومن خلالها تتمكن الأجهزة الرسمية ومنظمات أصحاب الأعمال من رفع الأجور لزيادة القوة الشرائية أو تجميدها تجنباً لأي تضخم أو زيادة في التكاليف.

غير أن نجاح سياسات تحديد الأجور الدنيا يحتاج بجانب قاعدة المعلومات الاقتصادية إلى متطلبات فنية تنص عليها الاتفاقيات الدولية والعربية الخاصة بالحد الأدنى للأجور، كالاتفاقية الدولية رقم (131) بشأن الحد الأدنى للأجور، وكذلك الاتفاقية العربية رقم (15) لسنة 1983 والتي صدقت عليها حكومة البحرين في عام 1984م ولم تتمكن من تنفيذها، وأحسب أن أحد أهم أسباب ذلك هو غياب وجود مجلس أعلى للأجور في البحرين.

ومن أهم المتطلبات الفنية المذكورة في هذه الاتفاقيات لنجاح سياسات الحد الأدنى للأجور هي التحليل القطاعي ومن ثم إمكانية تطبيق الحد الأدنى قطاعياً، ووجود نظام تفتيش قوي وتدابير لازمة لضمان التطبيق.

والتوصية الدولية رقم (135) ترى بجانب ما سبق ضرورة ألا يتعارض النظام مع معدلات الأجور في الأقاليم.

العهود الدولية وسياسات الأجور:

بموجب آليات متابعة الدول التي صادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإن التقارير الدورية المقدمة من الدول الأطراف وبموجب المادتين 16 - 17 من العهد الدولي يتم عرض الإنجازات والانتهاكات في العديد من القضايا المتعلقة بالعمل والعمال ومنها سياسات الأجور، وعلى الدول الأطراف أن توضح الآليات والإجراءات التي يتم من خلالها تحديد الأجور لتوضح مدى الانسجام مع عدم التمييز والتعسف.

وفي هذا الشأن فإن الحركة النقابية مطالبة بتقديم مرئياتها في هذا الحقل وأن تكون مساهمة بفعالية في متابعة مثل هذه الاتفاقيات والعهود الدولية، سواء المتعلقة بالاتفاقيات التجارية والتجارة الحرة أو المرتبطة بمواثيق حقوق الإنسان من محورها الخاص بالعمل والأجور.

إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"

العدد 4477 - الثلثاء 09 ديسمبر 2014م الموافق 16 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:03 م

      طرح قمة في الإفادة

      مثل هذه الاطروحات قادرة على خدمة البلد ، و مثل هذه العقول قادرة على تدبير و إدارة مصالح الشعب.
      هذا المقال علمني فكرة كبيرة و هي أنه بالإمكان التخفيف من الاعتماد على استخدام معدل الفائدة على القروض كوسيلة لوقف التضخم عند الحاجة ، و إستبدالها بفكرة تغيير معدل الأجور و بهذه الطريقة لن تتعرض العوائل و الشباب لمصير مجهول.
      و لكن لدي سؤال : هل يوجد حل غير خفض معدل الفائدة على القروض عندما تمر الدورة الاقتصادية بحالة ركود ؟ فربما صاحب العمل يرفض زيادة الرواتب في هذه الحالة ؟

اقرأ ايضاً