العدد 4478 - الأربعاء 10 ديسمبر 2014م الموافق 17 صفر 1436هـ

الوقاية ... نمط حياة

د. أحمد العلوي-وراثة جزيئية طبية و علم امراض 

10 ديسمبر 2014

أصبح الإنسان يعيش في عالم سريع متغير متطور وذي مصادر متنوعة على كل الأصعدة، وفيه انتقلت الحداثة من المكينة إلى نموذجيات النانو. وعليه أبحر الإنسان في بحر من العلم ليسبر فيه أسباب الأشياء بمهارة وتفرد. فبات يستصغر الأشياء التي كانت الكتب القديمة تقف عن تفسيرها وتدعي بأنها أساطير فالعلم اجدى من التنبؤ.

ورغم كل هذه التقنيات و المدنية مازال الإنسان يشتكي و بكثرة من وابل الأمراض سواء كانت مزمنة أو عرضية التي تعتريه. فقد ذلف زمن انتشار الكوليرا و الديزنتارية و الطاعون كوباء يحوط بالديار لترتد كرة الأمراض بأوبئة جديدة مثل داء السكري و ارتفاع ضغط الدم و أمراض الجهاز الدوري و القلب و سمنة مفرطة إلى مختلف انواع السرطان، ناهيك عن الأمراض العصبية و النفسية. 

إن لهذه الأوبئة الجديدة ( كظاهرة) اسقاطات و تحليلات عديدة فالبعض يرجعها إلى الوراثة حيث أن هذه الأمراض هي بالأساس أمراض وراثية انتقلت إلى المصابين عن طريق نقل الصفات الوراثية بجيناتها المعطوبة من الآباء إلى الأبناء، ناهيك عن زواج الأقارب المنتشر في مجتمعاتنا الشرقية و التي ترفع نسبة تواجد هذه الصفات الوراثية حميدة كانت أم خبيثة. 

فمثلا سرطان الثدي و الذي تكون درجة قياسه و التوقع بالإصابة به بتواجد جينات BRCA معطوبة عند أحد الأبوين و بالأخص عند الأم و نقلها إلى الجيل اللاحق (الأبناء) بنفس درجتها ليكون نسبة الاصابة بمرض سرطان الثدي و الرحم مرتفع لدرجة إلزام الإناث في هذه العوائل بالإلتزام بجدول الفحص الدوري و المكثف للسيطرة على تواجد هذا المرض. وفي حال حساب نسب الإحتمالية المرتفعة للإصابة بسرطان الثدي وفي سن معينة ينصح بالتوجه إلى الاستئصال الاختياري للثديين و الرحم (في بعض الحالات) للوقاية التامة من سرطان الثدي.

فالوراثة كعامل انتشار لكثير من الأمراض دور أساسي وكبير لكنه لا يصل لتحويل هذا المرض إلى وباء، حتى تنتج ان 34% من بلد ما مصابين بداء السكري أو بأمراض القلب. 

ورداً على ذي بدء، فأن العامليين الاساسيين غير الوراثة و اللذان يسهمان في انتشار أوبئة الألفية الجديدة و أمراض العصر الحديث هما ؛ البيئة و نمط الحياة. 

البيئة ؛ الكثير من المتغيرات البيئية التي تحاصرنا يوميا من موجات كهرومغناطيسية و موجات قصيرة و ذبذبات موجات المايكرو إلى الأشعة الفوق بنفسجية و المواد الكيميائية السامة المستنشقة في كل مكان، بالإضافة إلى العناصر الثقيلة مثل مادة الرصاص وغيرها.

كل هذه المتغيرات البيئية التي تعصف بالإنسان في حياته المدنية العصرية لا تخضع تحت سيطرت الفرد أو المجتمع فرغم المساعي الحثيثة للبيئيين والأحزاب الخضراء والإتفاقيات العالمية مثل كويوتو وغيرها إلى أن الحال لم يزل من سيء إلى أسوء وبدون فارق وهذا راجع إلى أمور عديدة لسنا في صدد النقاش والخوض فيها، لكنا في صديد تبيان حال التأثير البيئي على وجود هذه الأمراض. 

فالعنصر البيئي بشكله العام يعتبر أحد أهم المؤثرات في اكتساب وانتشار العديد من الأمراض و التي تتوسع بالانتشار لتكون أوبئة. قد تتغير بعض الصفات الوراثية المشتركة في المجتمع من بلد و مدينة و قرية إلى أخرى لكن المادة الكيميائية قد تكون ذاتها بكل الأضرار لأنها تنتج من نفس المصنع و الشركة و بنفس التركيبة حول العالم.

إن البيئة تحفز المورثات (DNA) الموجودة في خلايا جسم الإنسان لتكوين صيغة وراثية غير حميدة و حمل هذه المورثات الخلوية على الإنتاج عن طريق عملية النسخ و الترجمة transcription and translation للـ DNA إلى RNA ومن ثم إلى بروتين مصاب أو عن طريق التكرار replication لموروثات DNA لينتج صفات مشوه تنتقل من الآباء إلى الأبناء. وإذا تطرقنا إلى الصبغيات الوراثية Chromosomes الكروموسومات فمثلا عند عملية العبور cross over في الإنقسام المايوزي أو الجنسي للخلية سواء كانت بويضة أو حينوم (حيوان منوي) خضوع هذه العملية الحساسة والدقيقة لأي فرق في الجهد الكهربائي أو المجال الكهرومغناطيسي غير المنتظم سينتج عنه في غالب الأمر خلية وراثية بعدد كروموسومات غير متسق أي وجود كروموسوم أو جزء كروموسوم إضافي أو منقوص. 

فالتأثير البيئي يلعب دور اساسي في الحث و خلق وانتشار الكثير من الأمراض. ناهيك عن التلوث البيئي المنتشر بكثرة في مدننا الاسمنتية الجديدة و التي تزخر بكل أنواع المسببات البيئية لخلق فرص لأمراض و أوبئة جديدة.

بدون أن ننسى الأمراض النفسية و العصبية الكثيرة والمتفشية والتي أصبحت ظاهرة وبائية تطل كل يوم علينا لإستجوابنا وحثنا على الإعتراف الشخصي بها.

العامل الثالث و العنصر الملموس و المحسوس في واقع الإنسان و الذي يقع تحت سيطرة الفرد و ارادته و الطريقة المثلى للوقاية من هذه الأمراض سواء كانت بيئية ام وراثية وذلك بقطع الطريق على العوامل الأخرى عن طريق منع المحفزات الوراثية ومعالجة المتغيرات البيئية الحاصلة في المحيط من حولنا وهو إيجاد نمط حياة صحي للفرد. 

إن المشاكل الصحية و النفسية بشكل عام تعتمد على أنماطنا الحياتية و سلوكياتنا المعيشية سواء كانت سلوكيات مجتمعية أم فردية فمن أمراض الجهاز الدوري والقلب إلى السرطان إلى فرط النشاط وغيرها من أمراض مزمنة أو أمراض عرضية كلها تعتمد على نمط الحياة.

فالنوم و الحركة و التغذية و الجنس والعمل و الإجتماع التي نضعها كصفة لنفسنا تعتبر فسيفساء هذا النمط الحياتي و التي تظهر كشخصية محددة لنا ونعرف بها. ودائما ما نحاول أن نصونها ونضع هالة لجميع محتوياتها بميزاتها وعيوبها ونكسبها القداسة الخاصة لأنها ما نحن عليه.

إذا لنتفق أن نمط الحياة بمجمله أمر جبلنا عليه من واقع الممارسة و التربية و التعلم و الخبرات المكتسبة و المحيط لكننا نستطيع تغييره. وهذا لتثبيت العرش ثم النقش. إذ أننا بالإرادة سنصحح هذه الأنماط قدر الإمكان. 

والسؤال المتوارد إلى ذهن القارئ لماذا يجب تغيير نمط حياتي، استطيع الاكتفاء ببرنامج غذائي أو رياضي أو نفسي لفترة ؟ 

و الجواب البديهي لهذا التساؤل هو أن البرنامج سواء كان رياضي أو غذائي أو غيره يعد برنامج ذو فترة زمنية محددة ينتهي تأثيره بالانتهاء منه. و الدليل على ذلك برامج الحمية الغذائية المكثفة، إذ يرجع الوزن المفقود عن طريق هذه البرامج في الغالب و بعد الإنتهاء منها بفترة وقد يكتسب الجسم أوزان أكثر من المفقودة. 

إن تغيير نمط الحياة هو برنامج إذا صح التعبير يؤسس إلى تكوين فسيفساء جديدة لشخصيتنا الحاضرة على أساس صحي نتقي به الكثير من العوارض و المتاعب صحية كانت أم غيرها. 

إن محاور التغير لنمط الحياة عديدة و من أهمها الغذاء و الممارسات بكل أنواعها.

الغذاء و لتكن البداية هنا بأن المعدة بيت الداء و الحمية رأس الدواء، إن أجسامنا بما تحتويه من مورثات DNA و صبغيات خلوية chromosomes و خلايا و أنسجة و أعضاء و أجهزة تعتمد على ما نغديه من أطعمة مكونة من كربوهيدرات و بروتينات و دهون و فيتامينات و أملاح معدنية. فغذائنا هو ما نحن عليه وهو المرادف للجسد. 

إن اختلاط الثقافات العالمية بكل اشكالها قد غيرة شكل التجمعات البشرية. وهذا الأمر جلي للكل في مجتمعاتنا على جميع الأصعدة في اختراق نمط غذائنا، حيث أن المطاعم و المطابخ العالمية قد غزت ثقافتنا بكل سهولة وغيرت وجهة التغذية القديمة التي توارثناها جيل عبر جيل. كما أنها غيرت نوعية المذاق الخاص بمجتمعاتنا حتى بتنا بدون هوية غذائية نعرف بها وهنا أخص دولنا الخليجية .

قد يستهجن البعض التراث الغذائي الذي أودع لنا من قبل ذوينا و النقد دائما بأنها نمط غذائي قديم و نحن حداثيين. 

إن الرد العام لهذه الاستهجان هو أن هذا الموروث الغذائي مثله مثل الامثال و الحكم القومية، أي أنه نتاج خبرات و تجارب و محاولات على مدى التاريخ للحصول على ما يناسب هذه الأجساد غذائيا في هذه الظروف المناخية و الحصول على أفضل النتائج. أي أن هذا الموروث يعنى بجغرافية الغذاء.

إن جغرافية الغذاء هي المحتوى الغذائي الذي يتناسب كيميائيا و فيزيائيا و بيولوجيا مع هذا الجسد في طبيعة هذا المناخ الجغرافي و بهذه الكمية و في هذا الوقت. مثال على ذلك نحن كسكان دول شرق اوسطيه خليجية ذات مناخ حار جاف صيف ترتفع فيه درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية فما فوق، هل لدينا القدرة لتناول حصص غذائية ذات سعرات حرارية عالية و ذات طاقة كامنة عالية highly kinetic energy و ذات تركيبات بيولوجية معقدة؟ هل تستوعب أجسادنا – الحديثة – قائمة الاطباق الكونية و التي تعد وتطهى في شمال و جنوب الكرة الارضية ؟  

بالتأكيد، أجسادنا ليس لديها القدرة على الاستيعاب لكل هذه الطاقة و التعقيد الغذائي المفروض عليها و هذا ما ينتج عنه في وقت لاحق نتائج سلبية كارثية مثل داء السكري الذي اصاب 30% من شعوب الخليج أو معدلات السمنة المفرطة التي تتجاوز سقف 12% من نفس الشعوب.

فجغرافية الغذاء هي أداة لتفقه إذا صح التعبير في ما يحتويه الغذاء و فيما أنه يناسب أن نقتنيه لأجسادنا أو الإبتعاد عنه بتاتا أو احتمالية التعاطي معه في المناسبات. وأساس معرفة هذه الجغرافية هي المدخل لتغيير نمط حياتنا جذريا من ناحية الغذاء و ما ينتج عنه من أمور تتعلق بحياتنا.

المحور الثاني هي الممارسات اليومية أو بالأحرى السلوكيات التي نعبر بها عن انفسنا، مثل أوقات الخلود للنوم وساعاته، الأساليب الغذائية، الرياضة، التجمعات الحضرية، استعمال التقنيات، عدم التفاعل مع المناخ وغيرها. فالممارسات قد تكون مجتمعية، أي أنك مضطر لأن تجاري المجتمع في هذه الممارسة كأحد الطقوس الواجبة. وهناك ممارسات فردية يجب على الفرد انتقائها لتطبع داخل شخصيته و تتحول إلى نمط حياة.

و المثال الاول على ذلك ممارسة الرياضة، لا يجب ان تكون عداء مسافات لتظهر بشكل رياضي، لكنك تستطيع ان تخصص وقت لرياضة يوميا بمقدار نصف إلى ساعة لتكون في معادلة الممارس للرياضة. وهذه النمط سيوقفك لا إراديا عن ممارسات خاطئة عديدة غذائياً كانت أم غيرها.

أما المثال الآخر ما نستحثه من مناخنا الخليجي و الذي تطلق فيه الحرارة يدها لترفع درجات قصوى خلال فصل الصيف. كم منا تفاعل مع هذه الحرارة و أسبل جسده عرقاً من هذا الطقس، الكل يتفاعل بأن يخبئ نفسه تحت مكيف هوائي سواء كان في السيارة أم في المكتب أم في البيت مدعين الموت و الذوبان من هذا الطقس الحار.

و السؤال كيف احتمل آبائنا و أجدادنا نفس الحرارة في الأيام الخوالي وبدون كل هذه التقنية من تكييف مركزي و مولدات كهرباء ؟

إن المقال عند تغير الممارسات اليومية طويل جداً، حيث يتطرق إلى جزئيات الحياة اليومية و تفصيلها و محاولة تصحيح مسارها و ربطها بالغذاء و تأثيراته بشكل مباشر. وذلك لمنع و تقليل وقوع الكوارث الصحية بجميع اشكالها على الفرد و بالتالي على المجتمع. إن الإسهاب في شرح الممارسات اليومية و تغييرها لتكون نمط حياة صحيح و صحي لنا هو السبيل الأنجع.

قد تكون النصائح العامة مثل شرب كميات كافية من المياه، عدم أكل كميات كبيرة من الدهون، الإبتعاد عن السكريات، إيقاف التدخين، النوم الكافي والخ.. من اإرشادات هي أمور مجدية إلى حد ما لكنها ليست الحل الأمثل لمن أراد التغير الجذري لنمط حياته ليقي نفسه الأمراض.

أن التغير إلى نمط حياة صحي هو التعريف الجديد للوقاية من الأمراض، بحيث أننا نستغني عن جهد استقبال المرض و مراقبته و علاجه.

فالوقاية هي نمط حياة.

العدد 4478 - الأربعاء 10 ديسمبر 2014م الموافق 17 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً