العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ

متى سنختلف؟

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

في تاريخ الحروب الصليبية، كان بين الناصر صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد مراسلات عديدة، منها رسالة الأخير للأول كتب فيها: «إنني راغب في مودتك وصداقتك، وإنني لا أريد أن أكون فرعوناً يملك الأرض، ولا أظن ذلك فيك، ولا يجوز لك أن تُهلك المسلمين كلهم، ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم. وهذا ابن اختي قد ملّكته هذه الديار وسلمته إليك يكون هو وعسكره بحكمك، ولو استدعيتهم إلى الشرق سمعوا وأطاعوا. إن جماعة من الرهبان والمنقطعين قد طلبوا منك كنائس فما بخلت عليهم بها، وأنا أطلب منك كنيسة ...». فما كان من صلاح الدين إلا أن ردّ عليه: «إنك إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي، وسيبلغك ما أفعل في حقه من الخير، وأنا أعطيك أكبر الكنائس وهي القيامة...».

ولما أُصيب قلب الأسد في إحدى المعارك أرسل صلاح الدين طبيبه الخاص ليعالجه. وعندما سقط حصانه في معركة يافا أرسل له حصانين بداله. رغم العداء، والحرب، والقتل، ورغم كل شيء، تجرّد صلاح الدين من الحقد والضغينة، وغَلّب إنسانيته على مصالحه.

انتهت الحروب الصليبية في المنطقة منذ قرون، إلا الحروب الكلامية اليوم تعيد اجترار تلك المآسي القديمة، ولكن بطريقة أخرى. ألّف كتاباً، أو اكتب مقالاً، أو انشر تغريدة مقتضبة تعبّر فيها عن رأيك وسينهال عليك ألفُ شاتمٍ ومُكفّر، حتى لأظن أحياناً أن حرية التعبير عن الرأي تبدو عند بعض الناس أكبر جُرْماً من اقتحام المسجد الأقصى وقتل الأطفال والأبرياء!

دعونا نعترف: نحن لا نعرف كيف نختلف. بل في الحقيقة نحن لا نختلف، بل نتصارع، نضع الشتم والإهانة مكان السيّف (قديماً) ولا نرعى «قواعد الاشتباك» التي تلتزم بها الجيوش عندما تخوض حرباً. ندّعي أننا ندافع عن مبادئ معينة، ولكن بعنف شديد، ولغة بذيئة، وفكرٍ مُنغلقٍ، إقصائي، لا يرى خيراً في الطرف الآخر، ولا يُقدم حُسن الظن على سيّئه. إن ألفاظ المرء تدلك على عقليته.

اقرأ ما يُكتب وستجد ألفاظاً مُزعجة، مُتطرفّة، تتمنى الدمار والموت للآخر، هكذا مباشرة. هناك فرق كبير عندما أقول لك: «أنت مخطئ»، وعندما أقول لك: «أنت جاهل غبي تُريد إفساد المجتمع». قد تدفع الجملة الأولى خصمك إلى التفكير قليلاً، لكن الثانية ستُحيل الخصومة إلى حرب طاحنة، لا يسلم منها العِرْضُ، والنيّة، والمروءة.

كُنتُ سأكتب: «لا أدري لماذا نحن متطرفون هكذا؟» لكنني أدري؛ لأننا لا نقرأ! وعندما أقول لا نقرأ فأنا لا أعني أننا لا نفتح كتاباً، بل أعني أن كثيراً منا عندما يقرأون فإنه يقرأون الأفكار نفسها، يُكرّرون الأمثال نفسها، ويقحمون الأقوال والنظريات نفسها في كلامهم وكتاباتهم. نحن نخشى أن نقرأ للمختلف ونسميه «مبتدعاً» دون أن ندري ما تهمته، المهم أنه لا يناسبنا.

يقول أحد الكُتّاب المعروفين في المنطقة إن بعض رجال الدين كان يصفونه بالليبرالي وبالكافر، في الوقت الذي كان يُصلّي فيه الفجر مع ابنه في المسجد! لكن هذا ليس غريباً، فعندما نُربّي أبناءنا وبناتنا على أنهم يملكون الحقيقة الكاملة، وأنهم على صواب والعالم كله على خطأ، فليس غريباً أن يكبروا أُحاديي الفِكْر، ظلاميي البصيرة، لا يرون إلا ما قيل لهم، ولا يشعرون بالحاجة إلى البحث والتفكر والتساؤل. لم نُرّبهم على إمكانية أنهم قد يكونون على صواب ويكون الآخر على صواب أيضاً. لم نُعلّمهم أن الله وحده الذي يعلم من سيدخل الجنة ومن سيدخل النار. لم نُفهّمهم أن الحُكم على الآخر هو عملٌ لا يحق إلا لله وحده عزّ وجل. ولم نقل لهم تريّثوا قبل أن ينطح بعضكم بعضاً، لأننا لم نفهم، حتى الآن، أن اختلافنا مع أحدهم لا يستوجب كرهنا له.

يُحكى أن أستاذاً طلب من تلميذ عنده، وكان أحولَ العينين، أن يأتيه بزجاجة كانت موجودة في الغرفة المجاورة، فقال التلميذ: «أي الزجاجتين تريد؟» فقال له الأستاذ لا توجد إلا زجاجة واحدة، إلا أن التلميذ رفض رغم محاولة الأستاذ إقناعه، حتى انتابه الغضب ظناً منه أن أستاذه كان يهزأ به. وعندما رأى الأستاذ أن الغضب قد تملك من تلميذه قال له: «اكسر إحدى الزجاجتين وائتني بالأخرى». تناول التلميذ الزجاجة بيده ورماها على الأرض فاختفت الزجاجتان.

كثيرون بيننا كذلك التلميذ، يسيئون النوايا ويظنون العالم كلّه يتآمر عليهم أو على مجتمعهم، ولا يُدركون بأن العالم لا يأبه بهم؛ إنهم مشغولٌ باكتشاف الكواكب، واختراع عقارات طبية للأمراض الخبيثة، ومنهمكٌ في صناعة أجهزة جديدة يستخدمها لنشر المعرفة، ويستخدمونها هم لنشر الجهل.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:55 ص

      نعم للإنفتاح على الآخرين

      مقال رائع و اوافقك تماماً في القصد و إن كنت اتحفظ على نموذج العلاقة بين صلاح الدين و قلب الاسد فالإثنين كانا رجلين حرب، فصلاح الدين المتسامح مع قلب الاسد تجده متجاسر مع فلاحين مصر و مع ابناء سيده نور الدين زنكي الذين ابادهم من دون سبب .. و ارى بأن الفكر الليبرالي ميزة و ليس عيب لأن الفكر الليبرالي يؤمن بأن حقوق الانسان ذاتية و ليست مكتسبة ، هذا عكس الاديان التي توزع الحقوق بناء على الدين فإذا كنت مسيحي تدفع الجزية و اذا كنت كافر تُقتل و اذا كنت مسلم ترك الاسلام تُقتل!

    • زائر 3 | 3:01 ص

      مسلسل جلد الذات المستمر 3

      من سبب مأساة العراق؟ من خول الروس و الأمريكان في دخول أفغانستان؟ لم اشترط الأمريكان على الرئيس مبارك المغادرة فوراً ( الآن يعني الأن و ليس سبتمبر) ، بينما لم يشترطوا أي شيئ على الرئيس السوري؟
      العرب ليسوا فقط القاعدة و داعش و النصرة ، وغالب العرب لا يستخدمون نتاج الغرب لنشر الجهل!

    • زائر 2 | 3:00 ص

      مسلسل جلد الذات المستمر 2

      فمن أين خرجت سايس بيكو؟ و من سبب مأساة الفلسطينيين؟ من سن قرار الفوقية "الفيتو"؟ من الذي يخرج كل ثلاثين سنة "الكتاب الأبيض" لبيان أنشطته العلمية والإنسانية؟ عمن تتكلم سوزان لينداور مؤلفة كتاب "الإجراء الأقصى"؟

    • زائر 1 | 2:58 ص

      مسلسل جلد الذات المستمر 1

      جميلة قصة صلاح الدين و قلب الأسد. لكن هل الغربيين تحولوا إلى رسل حضارة ؛ والعيب فينا فقط؟ هل الإنسانية اجتمعت في الغرب فقط؟ هل هو " مشغولٌ باكتشاف الكواكب، واختراع عقارات طبية للأمراض الخبيثة، ومنهمكٌ في صناعة أجهزة جديدة يستخدمها لنشر المعرفة " فقط؟ و نحن الذين "نسيئ النوايا ونظنن العالم كلّه يتآمر علينا ، ونستخدمها لنشر الجهل"!

اقرأ ايضاً