العدد 4487 - الجمعة 19 ديسمبر 2014م الموافق 26 صفر 1436هـ

الانفجـار الكبيـر... دولٌ جـديـدة وشـعوب خـارج الأمـة والمِلَّة

اليوم دولنا العربية 22 دولة، لكن هذا العدد مُرشَّح للارتفاع. قد يصبح 25، بل ربما 30 دولة! أيضاً، لدينا 57 دولة إسلامية، لكن هذا العدد هو الآخر مُرشَّح لأن يتغيَّر. قد يزداد برقميْن أو أربعة أو حتى عشرة!

لكن، كيف يُمكن أن يحدث ذلك؟! الجواب باختصار هو التشظِّي الطائفي والقبلي والإثني الذي يعصف بالمنطقة، وهو ما يعني أن دولاً قد تنشأ لتزيد رقماً أو أكثر على الدول الأوسطية، بهوية جديدة أكثر خصوصية وانكفاءً وابتعاداً عن الأمة. بمعنى أنه ليس بالضرورة أن تكون هويتها عربية أو إسلامية، بل لها صور أخرى قد تُستَدعَى من التاريخ السحيق.

فالصراع الدائر في لبنان وأفغانستان وفلسطين ولبنان وسورية والعراق وشبه الجزيرة العربية ومصر وليبيا والمغرب والجزائر والسودان ودول أخرى، وما يكتنفه من صراع قائم على تباينات الدِّين والعِرق والقبيلة سيعني تغييراً في مسائل صلبة داخل المجتمعات الأهلية والسياسية كالهوية والوطنية.

الهوية

ماذا يعني أن تكون طاجيكيّاً أو بشتونيّاً؟ أو أن تكون أوزبكيّاً أم هزاريّاً؟ أو أن تكون بنجابيّاً أو سِنديّاً؟ أو أن تكون آذريّاً أو فارسيّاً؟ أو أن تكون شركسيّاً أو تركمانيّاً؟ أو أن تكون نوبيّاً أو بشاريّاً؟ أن تكون عربيّاً أو أمازيغيّاً؟ جنوبيّاً أو شماليّاً؟ زنجيّاً أو طوارقيّاً؟ جلاصيّاً أم صوابريّاً؟ من التبو أم من البراعصة؟ مولّدونيّاً أو بربريّاً، والقائمة لا تنتهي.

في الجانب الآخر: ماذا يعني أن تكون مسلماً أو مسيحيّاً أو يهوديّاً أو صابئيّاً أو إيزيديّاً أو بهائيّاً أو زرادشتيّاً؟! ماذا يعني أن تكون كاثوليكيّاً أو بروتستانتيّاً أو شيعياًّ أو سُنيّاً، أو درزيّاً؟ وماذا يعني إن اعتقدتَ بعدة أشياء في آن واحد؟ وعشتَ في بلد بينما وُلِدتَّ في بلد آخر؟

تلك العناوين، هي ما يؤرق منطقتنا بالتحديد. فقد أصبح موضوع الهوية، أحد أهم إشكالات الشعوب، ونظرتها إلى ذاتها وانتمائها. ولو أرجَعنا 90 في المئة من الصراعات اليوم في منطقة الشرق، سنرى أنها لا تخرج عن ذلك الإشكال، وخصوصاً أنها امتزجت بالسياسة، فأصبح الإشكال مركَّباً وغير خاضع لمعيار واحد.

إن تلك الأسئلة هي التهديد الحقيقي لعالمنا العربي والإسلامي. إنه الانتباه إلى الدائرة المضمرة في الهويات الفرعية، وبالتالي إعادة إنتاج الوطنية بشكل مُشوَّه. لم يعد الأمر متوقفاً على تلك الهويات الجديدة المستيقِظَة، بل في تمثلاتها على الأرض: إدارات، أو أقاليم، أو حكم ذاتي، أو كونفيدرالي، بل وفي أحيان أخرى دول مستقلة علاجها الكَيْ!

كان أمارتيا سين صاحب كتاب «الهوية والعنف... وهْمُ القَدَر»، يعتقد، بأن «التجزيء الحضاري أو الديني لسكان العالم يؤدي إلى مقاربة انعزالية للهوية الإنسانية، وهي التي تنظر إلى بني الإنسان، بوصفهم أعضاءً في مجموعة واحدة فقط». هنا، يبدأ العنف بالتشكل بعد «إنماء حسِّ الحتمية بهوية مفردة» كما أشرنا من قبل.

إن هوية «فريدة غير اختيارية» تعزِّز «الصراعات ومظاهر البربرية في العالم» هي المشكلة. هو يعتقد بأن التاريخ والخلفية، ليسا «الطريقين الوحيدين لرؤية أنفسنا والجماعات التي ننتمي إليها». فالفرد، يمكنه أن يصبح «آسيويّاً ومواطناً هنديّاً وبنغاليّاً ذا جذور بنغلاديشية ومقيماً في بريطانيا أو أميركا، واقتصاديّاً وهاوياً للفلسفة ومؤلفاً ومؤمناً بالعلمانية والديمقراطية». لكن هذا الأمر «قد» يعتبر اليوم ضرباً من «المثالية» في ظل الصراع المجنون الذي يَهرِسُ هذه المنطقة.

هو يقول إن الفرد، يمكنه أن «يمتلك هويات متعددة حتى في داخل الفصائل المتقابلة، فيمكن أن تتقابل مواطنة معينة، بمعنى أوَّلي مَّا، مع مواطنةٍ أخرى في هوية شخص واحد». لكن، يُمكن أن تكون المواطنة «أحادية» دون أن يلزم من ذلك اختفاء «صراع الولاء الثنائي». لكن التغلب على ذلك يكمن في عدم «تصنيف الناس في وحدات حضارية غير واضحة المعالم، تربطها روابط دينية كالحضارة الإسلامية والحضارة الهندوسية»، بل «بتصنيفهم مباشرة بمعايير التجمعات الدينية للناس».

بداية التشظِّي

لا يخفى على أحد أن منطقة الشرق هي المهد الأصلي للديانات السماوية وحتى الأرضية منها. فالهندوسية ظهرت قبل 3500 عام. واليهودية قبل 2500 عام. والمسيحية قبل ألفي عام، وبعدها الإسلام قبل أكثر من 1400 عام. لكن، وقبل ذلك، ظهرت أديان أخرى، حيث تأثرت المزدائية بالزردشتية في القرن السابع قبل الميلاد، وظهرت المانوية والمزدكية والبوذية والزردشتية قبل الفتح الإسلامي لبلاد فارس، وهكذا دواليك في مناطق أخرى.

أيضاً، فقد تشققت مجتمعات ودول شرقية، فأنتجت أعراقاً وسلالات وإثنيات وأصلاباً جديدة، تداخلت فيها دماء القادمين على وقع الهجرات الاختيارية والقسرية من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، نتيجة البحث عن الماء والكلأ في الأولى، أو نتيجة الصراعات والحروب كما في الثانية، وهو ما زاد من حالة التشظِّي وتعدد الأقوام والمِلل.

وعلى مدى الحكم الإسلامي وتحديداً في الفترة الراشدة، وبعض الحقب التالية المتقطعة، حافظت بعض هذه الأقليات على نظام بقائها، معتمدة على تقديم الجِزية في المناطق التي غُلِبَت فيها، وهو ما جعل لها امتداداً لعصور لاحقة. وقد استمر الحال حتى مجيء العثمانيين، في القرن الرابع عشر الميلادي الذين أوجدوا نظام المِلل للمذاهب التي كانت تعيش في الأراضي التي يتأمَّرون عليها.

لكن، وخلال التحولات الاجتماعية والأمنية التي رافقت الصراع الأوروبي العثماني، بدأت الآستانة في النظر إلى الأقليات على أنها خواصر رخوة، يُمكن أن يتكئ عليها الفرنسيون لضرب الدولة العثمانية، وهو ما جعل الباب مُشرعاً كي تنفَذ الدعوات النابليونية لدى الطوائف في منطقة بلاد الشام والهلال الخصيب (لبنان وفلسطين والأردن وسورية).

وبعد ارتخاء قبضة العثمانيين على المنطقة العربية، ثم زوال حكمهم، بدا أن الأقليات التي تنبَّهت لذواتها لم تَنَل مرادها في الكينونة وتحديد الهوية، وخصوصاً مع مجيء أنظمة مشطورة ما بين قطبين عالمين، ثم هيمنة النَّفَس القومي على الحالة السياسية العربية، وتحديداً في سورية والعراق وتطبيق سياسات التعريب والضَّم القسري للأمة وتذويب الثقافات المحلية للجماعات الصغيرة، وهو ما جعل الأمور تسير إلى الأسوأ.

مشكلة التوصيف

اشتُقَّت كلمة أقليَّة من القِلَّة، لكنها لم تَرِد في قواميس اللغة. فما جاء هو أن القِلَّة خِلاف الكثرة. وقد قَلَّ يَقِلُّ قِلَّة وقُلاًّ، فهو قَليل وقُلال وقَلال، بالفتح. وقَلَّله وأقَلَّه: جعله قليلاً، وقيل: قَلَّله جعله قَليلاً. وشيء قليل، وجمعه قُلُل: مثل سَرِير وسُرُر. وقدم علينا قُلُلٌ من الناس إِذا كانوا من قَبائل شتَّى متفرِّقين، فإِذا اجتمعوا جمعاً فهم قُلَلٌ.

إذن، فإن المصطلح مُستَولَدٌ من القِلَّة كما أشرنا، لكن المشكلة هي في توصيف هذه القِلَّة. فما هو كَثير هنا، قد يكون قليلاً هناك، وما هو قليل هنا وقليل هناك، قد تنتفي عنه صفة القِلَّة إذا ما جمعنا قُلَلَه المتناثرة. وما هو كثير هنا، وكثير هناك، قد يُصبح قليلاً إذا ما وسَّعنا الرقعة الجغرافية، فتُغالبه طوائف وأعراق أخرى.

الشيعة أكثرية في العراق لكنهم أقليَّة في سورية والعكس صحيح بالنسبة إلى السُّنة في البلديْن ذاتهما. الأكراد أقليَّة في إيران والعراق وتركيا وسورية لكن تعدادهم مجموعاً يصل إلى قرابة أربعين مليوناً، أي أنهم يناهزون (إلاَّ قليلاً) سكان دول الخليج العربية مجتمعة! لذلك، فإن وصفهم بأقليَّة قد يحتاج إلى مزيد من التدقيق من حيث الجغرافيا.

هذا الأمر، جعل من مسألة توصيف الأقليَّة والأكثرية محل جدل، لكنه وفي الوقت نفسه (وهو الأهم) أعطى الهويات الفرعية زخماً أكثر، وفرصة للالتئام العابر للحدود، وذلك بفضل تعاظم وسائل الاتصال. لقد أصبح الإضرار بأقليَّة ما في أي حيِّز جغرافي سبباً في تداعي المتماهين معها طائفيّاً وعرقيّاً نحوها، كما وجدنا مع محنة الأكراد في عين العرب أو مع الطوائف الأخرى، مثل العلويين في سورية والسُّنة في اليمن، وكيف أن حالة من الاستنفار العرقي والطائفي قد صاحبتها من المكوّنات ذاتها في المنطقة ولو خارج الحدود.

وأمام تلك الإشكالية، بدأ الحديث يقوى ويخفت عند الأقليات فيما خصَّ موضوع التشكُّل وإرساء الكيان. فهناك على سبيل المثال، مَنْ يرى أن قوامه في دولة لها مؤسساتها وهويتها الثقافية أمر طبيعي كالأكراد. هذا الأمر قد ينسحب أيضاً على الأمازيع مع وصول عددهم إلى 55 مليون نسمة، على رغم عدم طَرْقهم هذا الأمر.

التقسيمات

يُشكِّل المسلمون غالبية سكان المنطقة، ابتداءً من أفغانستان وانتهاءً بالمغرب العربي، ضمن سبعة مذاهب أساسية، هي: الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة والشيعة الاثني عشرية والزيدية والإباضية. في حين تتوزع بقية الانتماءات الدينية على مدارس التصوف فضلاً عن المسيحية واليهودية والصابئة والإيزيدية والدروز وغيرها.

وإلى جانب تلك التباينات، هناك تقسيمات إثنية أخرى تتعلق بما يُمكن أن يُسمَّى بالجُدُوديَّة، كالأعراق من أقوام وقبائل وعشائر. وهو أمر تداخل فيه العِرق مع الانتماء الديني. فعلى سبيل المثال فإن يهودية إسرائيل وفي الوقت نفسه علمانيتها، أمر في غاية التعقيد. فدولة يهودية لا تقبل بغير اليهود فيها، وأيضاً دولة تعددية، لكنها تفصل فصلاً شديداً في مسألة الاشكيناز والسفرديم، وبين اليهود والعرب، يجعلها بلا مرجعيات وطنية، ولا نهايات أخلاقية وقيمية متفق عليها لكيانها السياسي والاجتماعي.

صور حيَّة

العراق:

شكَّل العراق ساحة تاريخية قديمة للحضارات الكبرى والديانات الأولى القادمة من وراء الحدود، وأيضاً للصراعات التي كانت تجرى على أرضه، الأمر الذي جعل منه منطقة جذب للعديد من الأعراق والأديان والقبائل المختلفة. لذلك، فإن العراق اليوم يضم المسلمين الشيعة والسُّنة كدين غالب في العراق، بالإضافة إلى الأكراد (سُنة وشيعة فيليين)، والتركمان (من السُّنة الأحناف ومن الشيعة) والمسيحيين (الروم الأرثذوكس والكاثوليك والنساطرة والآشوريين والكلدان واليعاقبة)، والصابئة والإيزيديين والشركس والأرمن، فضلاً عن التنوع القبلي والعشائري الممتد إلى سورية والأردن والسعودية واليمن.

سورية:

لا تختلف سورية عن العراق فيما خص الأسباب الحضارية والدينية في تشكُّل مجتمعها الحالي. حيث يعيش فيها المسلمون من عدة مذاهب كالسُّنة (المالكي بالتحديد والطوائف الصوفية)، والشيعة والعلويين والإسماعيليين النزاريين الآغاخانيين فضلاً عن الدروز والمسيحيين العرب وغير العرب، (موارنة وروم أرثوذكس وكاثوليك ولاتين ويعاقبة). كما يعيش فيها الأكراد والتركمان والشركس بالإضافة إلى العشائر والقبائل العربية، وبالتحديد في حزامها الشرقي والجنوبي.

لبنان:

كان لبنان ولفترات طويلة نقطة التقاء العديد من الثقافات الرومانية والشرقية، سواء إبَّان الوثنية أو المسيحية. كما أن نزوح ما تمخَّض عن الدولة الفاطمية من حركات واتجاهات فكرية، جعل منه منطقة متنوعة ثقافيّاً وإثنيّاً وطائفيّاً. فهو يضم المسيحية بأشكالها كافة (الموارنة والروم الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت ومن غير العرب الأرمن الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، فضلاً عن السريان واللاتين والأقباط). كما يوجد فيه مسلمون سُنَّة وشيعة وعلويون ودروز، وأكراد وأتراك وشركس، وقبائل بدوية.

مصر:

مثَّلت مصر، ولاتزال صورة فريدة من التاريخ الضارب في القِدَم. فقبطيتها قبل دخول العرب إليها، وارتباطها بالحضارة الفرعونية، وحقبة فتحها من قِبَل المسلمين، فضلاً عن هويتها الإفريقية والهجرات التي كانت تقصدها جعل منها منطقة متعددة الديانات واللغات.

ففي مصر يعيش المسلمون السُّنة والشيعة والإسماعليون. وفيها أيضاً زهاء عشرة ملايين قبطي غالبيتهم من الأرثوذكس وجزء من الكاثوليك والبروتستانت، وكذلك النوبيون من الكنزية والفاديجية والأرمن والبشارية، والبربر السيويون من أهل الطرق الصوفية، بالإضافة إلى الغجر والزنوج، الذين قَدِموا مصر أيام الرِّق، مع القوافل.

ليبيا:

يعتبر المجتمع الليبي من أكثر الحالات تشظياً من حيث هيمنة القبيلة، حيث يتواجد فيها زهاء ستين قبيلة، تتوزع على ليبيا من أقصاها إلى أقصاها، نصفها غير عربية، حيث كانت الأمازيغية وإلى ما قبل دخول العرب إلى ليبيا هي المهيمنة. كما توجد فيها قبائل التبو والطوارق والأمازيغ من اللواتة والهوارة والزناتة بتفريعاتها المختلفة، وكتامة وصنهاجة وزويلة والأواجلة وغيرها. وإلى جانب ذلك، فهناك في ليبيا تعدد مذهبي أيضاً، ما بين سُنَّة مالكيين وإباضية، فضلاً عن المدارس الصوفية التقليدية المتجذرة.

تونس:

تعتبر تونس ضمن الامتداد الذي يغطي شمال إفريقيا والتي تأثر بدولة الأغالبة، أو بما هو في جوارها مثل الدولة الرستمية في الجزائر والأدارسة في المغرب، فضلاً عن نفوذ الدولة الفاطمية على عموم شمال إفريقيا. هذا التاريخ، جعل من تونس أرضاً بها العديد من المشارب العرقية والدينية والقبلية، حيث يعيش فيها الأمازيغ والعرب السُّنة والشيعة وحتى المسيحية المتصلة بالقديس أوغستين، فضلاً عن اليهود، وبقايا الجاليات الأوروبية.

وعلى رغم سياسة الحبيب بورقيبة المناهضة للقبلية، فإنها ظلت حتى الساعة. فهناك الجلاص بتفرعاتها وهناك أولاد يعقوب وأولاد دباب وأولاد سليم وأولاد سلطان والصوابر وبنو يزيد والكعوب والهمامة والحمارنة والمثاليث والمرازيق. لكن وعلى رغم ذلك، لم تكن الهوية العربية والإسلامية فاقعة في تونس حتى العام 1861م ضمن الحركة الدستورية كما يقول بعض الباحثين.

الجزائر:

تعتبر الجزائر دولاب الحركة الإثنية والدينية في المغرب العربي، وخصوصاً أن موقعها يتوسط قلب الشمال الإفريقي القادر على إيصال شماله بجنوبه وغربه بشرقه. كما أن تاريخها السياسي والديني، ثم الاحتلال الفرنسي لها طيلة 132 عاماً خلق فيها مجتمعاً فسيفسائيّاً بامتياز. حيث يعيش فيها المسلمون السُّنة (البربر من الشاوية والشلوح والطوارق ومن البدو الرُّحل) والشيعة والإباضية الميزابيون البربر، وكذلك المسيحيون.

السودان:

تعتبر السودان مهداً قديماً للممالك النّوبية. وعندما دخلتها المسيحية في عهد الإمبراطور الروماني جستينيان الأول، وتكوَّنت فيها أصول الدولة النبتية ومملكة المغرة وعلوة وغيرها، وتالياً الإسلام في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، شهدت السودان تحولات اجتماعية وثقافية كبيرة. هذا الأمر جعل البلد، الذي تغيَّرت معالمه من حقبة إلى أخرى، موطناً للعديد من الأديان والإثنيات والقبائل.

فحاضر السودان يشير إلى أنه يضم المسلمين كغالبية سكانه وبمذاهب مختلفة ومدارس متعددة ،أهمها الحركات الصوفية المتجذرة، بالإضافة إلى المسيحيين وأعراق عديدة كالنوبيين والهوسا والبجا والفور والبانتو، وأيضاً الوثنيين، وشعوباً إفريقية صحراوية، أو تلك التي سَكَنت الأنهار منذ آلاف السنين.

المغرب:

إذا ما عَلِمنَا أن المملكة التي شُيِّدَت في القرن الأول ما قبل الميلاد في المغرب كانت على أيدي الأمازيغ، وتمددت حتى تخوم الجزائر وموريتانيا سنُدرك طبيعة المجتمع المغربي. كما أن اتصال تاريخ المغرب (قبل ذلك) بالفينيقيين وبالعهد الروماني، وتالياً بالعصر الإسلامي، ومؤخراً في العصر القريب حيث الاحتلال الإسباني والفرنسي جعله مجتمعاً متغيراً باستمرار، وتعيش فيه العديد من الصور العرقية والدينية.

فالمغرب يعيش فيه مسلمون عرب من السًّنة، وأمازيغ وشلوح، وطوارق، وبدو من البربر، وزنوج ومسيحيون ويهود. كما يضم وعلى هامش المدرسة الأشعرية العديد من الطرق الصوفية.

موريتانيا:

لا تختلف موريتانيا عن سلسلة الأرض الممتدة نحو الغرب ثم انعطافاً نحو الشرق وصولاً إلى تونس. ولأنها كذلك فهي ذات تاريخ متماثل يرجع إلى العهد الروماني.

ولأنها كذلك تقع في الرقعة الشمالية الغربية من إفريقيا مع إطلالة ممتدة على الأطلسي من جهة الغرب، متجاورة مع الصحراء الغربية والسنغال والجزائر ومالي، فقد تشكَّل فيها مجتمع ذو أعراق وديانات مختلفة، حيث يسكنها العرب والبربر الطوارق والأفارقة من التكرور نسبة لأرض بالسنغال، وكذلك الولوف، والسونينكي المتواجدون في السبخة والفولاني من بقايا الممالك السابقة وهم من البدو الرُّحَّل.

تركيا:

إن ستة قرون من عمر الدولة العثمانية، جعل من تركيا تصطبغ بسمات اجتماعية متباينة، تداخل فيها العرقي بالديني الطائفي، نظراً إلى الأراضي الشاسعة التي هيمنت عليها هذه الدولة طيلة مئات السنين. كما أن جوارها مع عموم منطقة آسيا الوسطى المليئة بالإثنيات والأعراق جعل من مجتمعها يعج بالأقليات. ففي تركيا يعيش السنة والشيعة والأكراد والعلويون إلى جانب الآذريين واليهود والأرمن واليونانيين والمسيحيين من السريان والكلدان واللاز والشركس والكرج والشيشانيين والإينغوش. والغريب أن بعض الأقليات هي أكبر من أن تكون أقليَّة، كالأكراد الذين يبلغ تعدادهم 15 مليوناً والعلويين الذين يصل عددهم إلى 20 مليون نسمة.

إيران:

تعتبر إيران حلقة الوصل ما بين الشرق والغرب، ومهد الحضارات القديمة منذ أيام الآشوريين. حيث ارتبط اسمها بالامبراطويات التي تعاقبت على حكمها حتى وصلت إلى تخوم الروم، الأمر الذي خلق فيها العديد من الأعراق والديانات السماوية والأرضية معاً. لذلك، فهناك الفرس والآذريون والعرب والأكراد والبلوش واللور. وتتوزع على تلك الأعراق مجموعة من الديانات وتفرعاتها، كاليهودية والمسيحية والإسلام بمذاهبه المختلفة سواء الشيعة أو السُّنة، وبعض الفرق الأخرى، فضلاً عن الحركات الصوفية. كما يوجد في إيران بقايا الديانات القديمة كالزردشتية والمزدائية والمانوية والمزدكية وغيرها.

أفغانستان:

شكَّلت أفغانستان الوعاء الأهم للأقوام والديانات القادمة من فارس ومن جنوب وشرق آسيا، وكذلك من الغرب مع مجيء المقدونيين، وممالك الإغريق. كما أن طبيعتها الجبلية والقبلية، ساهمت بشكل كبير في تعدد الهوية الداخلية للبلد المتأثر أصلاً بالهجرات البشرية السابقة، فظهر البشتون والطاجيك والهزارة والأوزبك، مع ألوان مختلفة من الديانات والمذاهب الإسلامية، وتوجهات سياسية لا تحصى.

باكستان:

تاريخ باكستان كغيره من تاريخ الدول التي استوطنت شعوب كثيرة على أرضها، مستفيدة من نهر السند، الذي كان يُشكِّل جذباً للتجارة والاستقرار منذ ما يقرب من 2500 عام قبل الميلاد. كما أن اقتراب باكستان من شبه القارة الهندية جعلها على تماس مع الكثير من الديانات والأعراق، حيث يعيش فيها المسلمون بشتى مذاهبهم السُّنية والشيعية والإسماعيلية، وكذلك العديد من الأعراق كالبلوش، وأهل السند والبنجابيين البشتون ويتوزعون على المناطق الشمالية والقبلية وسرحد والبنجاب والسند وبلوشستان.

فوبيا الذوبان

هنا، وأمام هذه الخارطة المعقدة للمنطقة، يظهر لنا مدى هشاشة الدولة في منطقة الشرق الأوسط. وربما نستحضر ما قاله ابن خلدون في مقدمته، ضمن باب الدول العامة والمُلك والخلافة والمراتب السلطانية في فصله التاسع حيث يقول: إن «الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أن تستحكم فيها دولة»، والسبب كما يراه هذا العالم الاجتماعي الكبير «اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة». انتهى.

وربما ساعد على هشاشة الدولة لدينا غياب الشفافية والحكم الرشيد والمواطنة والمواساة في الحقوق والواجبات وتوزيع الثروة، ونشوء فروق طبقية واجتماعية هائلة وغياب التنمية، الأمر الذي جعل من الأقليات تنتفض في داخلها كي تحمي نفسها من آخر خط في معركة الزوال، أو توفير الحماية الذاتية من الذوبان والانصهار، مضافاً إليها حالة الفوضى والاستئساد الذي تمارسه الأكثرية على الأقلية، أو الأقليَّة المسلحة على الأكثرية من العُزَّل.

بالتأكيد، ليس كل الأقليات لديها طموح انفصال أو استقلال، لكن هذا لا يعني أن بعضها ليس لديه تلك الرغبة. وربما تتبلور تلك الطموحات بشكل أدق وأشمل عندما تنضج ظروف سياسية واقتصادية محددة، كما جرى بالنسبة إلى الأكراد في العراق. وإذا كان الأكراد يُشكّلون صورة عرقية للانفصال فإن السودانيين الجنوبين يُشكلون صورة دينية لتلك الرغبة، حيث كان للأغلبية المسيحية الطموح ذاته، وكذلك الحال بالنسبة إلى تيمور الشرقية مع إندونيسيا، وقبلها انفصال باكستان عن الهند لدواع دينية أيضاً.

في الغرب، كانت ولاتزال، هناك مطالبات من قِبَل بعض الأقليات بالانفصال كما في كاتالونيا والباسك بإسبانيا وعند الكورسيكيين والبريتانيين في فرنسا والويلزيين في بريطانيا واللاتينيين أو المكسيكيين في الولايات المتحدة الأميركية. لكن تجربة استفتاء أسكتلندا الأخيرة أعطت العالم درساً قيِّماً في طريقة إدارة الدولة لأقلياتها وضمن قومية وهوية واسعة، إلى الحد الذي يجعل من نزعة الانفصال عند الأقليات تخبو وتضعف.

المستقبل المجهول

اليوم، ينظر البشتوني في أفغانستان إلى نظيره في باكستان. وينظر الآذري في إيران إلى أخيه في تركيا وآذربيجان، وتشرئب أعناق الأكراد في ديار بكر إلى أهلهم في عين العرب وإيران وكركوك، وينظر الشيعة والسُّنة والشركس والأمازيغ والبلوش والقبائل وعموم الديانات السماوية والأرضية إلى بعضهم بعضاً في المحيط الأوسع المتناثر.

وهي وإذْ تتداعى إلى بعضها تحت العنوان العام، فإنها وفي الوقت نفسه ليست مُحصَّنة أمام التشظِّي المتوالد في العِرق والدين الواحد ذاته. وقد أظهرت لنا تجربة جنوب السودان خلال الصراع الدموي بين الرئيس سلفاكير ميارديت الذي ينتمي إلى قبيلة الدِّينكا، ونائبه المعزول رياك مشار الذي ينتمي إلى قبيلة النوير، أن صورة التشظي ليست دينية فقط، بل إن هناك أمراضاً قبلية وعرقية تموج بها هذه المنطقة، على رغم الادِّعاء بأن العلمانية قد تكون حاميةً أو مانعةً لأية انقسامات عرقية ودينية.

وكما قلنا في قبل، فإن النُّوَيْرِي لم يرَ نفسه سودانيّاً جنوبيّاً، بل بانتمائه القبلي. والدِّنكاوي لم يعد يرى نفسه إلاّ كذلك. وكذلك الحال بالنسبة إلى الشيرلوكيين والشلكيين والأشوليين وقبائل الباريا واللاتوكا والمورلي والزاندي والفرتيت. وأصبح ثمانية ملايين من شعب جنوب السودان، يعومون في تلك التشكُّلات القبلية والعرقية الضيقة.

في المحصلة، لا توجد ضمانة لوقف التشظِّي الديني والعِرقي مهما يكن صغيراً، إلا الضمانة الأمتن وهي المواطنة الحقة، التي من شأنها أن تضمن حقوق الجميع، فتُنسي المتباينين هوياتهم الفرعية. ومن دون ذلك، لن نصحو إلاَّ وقد أصبحت هذه المنطقة شراذم متناحرة ضعيفة لا تلوِي على شيء.


المصادر التي تم الرجوع إليها:

1) آمارتياسين... الهوية والعنف... وهْم القدر.

2) مقدمة ابن خلدون.

3) سعود ظاهر... أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية. «خريطة الأقليات في الوطن العربي».. صحيفة «الشرق الأوسط»... العدد 9635 (15 أبريل 2005).

العدد 4487 - الجمعة 19 ديسمبر 2014م الموافق 26 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:18 م

      الانفصال حل منطقي و انساني

      العرب و المسلمون لا يملكون ثقافة التعايش لأنهم يقحمون الديني و المقدس في كل تفاصيل الحياة ، بما يعني أن كل اختلاف في تفاصيل الحياة و المصالح المعيشية يؤدي لحروب طائفية و دينية مقدسة و إن كانت القشور سياسية ، فالإنسان لدينا إذا كان من أقلية أو جماعة غير حاكمة يُحرم من كل حقوقه الانسانية و المدنية ، و في ظل هذه الازمة و المصيبة الثقافية لا يوجد حل إلا الانفصال و التشظي فهو أخف الضررين.

اقرأ ايضاً