العدد 4506 - الأربعاء 07 يناير 2015م الموافق 16 ربيع الاول 1436هـ

الجنسية الرخيصة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الجنسية ليست سبيلاً لأن يُحبّ المرءُ وطناً ما! ولا انعدامها عند أحد يعني أنه كاره لوطن ما أيضاً. فالجنسية، علاقة قانونية تنظيمية بين الفرد والدولة لا أكثر: حقوق سياسية، وامتيازات اقتصادية، ودخول آلي في منظومة الخيارات العامة للدولة. إذاً، فالعلاقة ميكانيكية لا تُنتِج عواطف ولا مشاعر «بالضرورة» كي يتكرّس الانتماء وحب الأرض.

لقد تخلَّى الممثل العالمي الشهير جيرار ديبارديو عن جنسيته الفرنسية ليصبح روسياً، بعد أن عَيَّره رئيس الوزراء الفرنسي جان - مارك إيرو بقلَّة الوطنية بعد تهرُّبه من الضرائب، فمَنَحَه بوتين جنسية روسية. ثم خرَجَ ديبارديو للإعلام وقال: «نحن لم نعد ننتمي للبلد نفسه، فأنا أوروبي حقيقي ومواطن عالمي، كما ربَّاني والدي دائماً» ثم استدار.

في مقابل ذلك، لم يتخَلَّ الآبوريجينال (وهم السكان الأصليون لاستراليا) عن حبهم وتمسكم بأرضهم وهم بلا جنسية ولا جوازات سفر، رغم الظلم الذي اقترفه الرجل الأبيض «المحتل» ضدهم منذ العام 1788 ولغاية بدايات سبعينيات القرن الماضي. فـ 60 ألفَ عام من ارتشافهم من مائها واستنشاق هوائها كانت أقوى من أية وثيقة قانونية.

في فترات سابقة، كانت النسوة الإستونيات ممن كُنَّ يعملنَ في مناطق الساكسون الألمانية قد هَجَرْنَ ما هم فيه من حرية عمل وحركة وجَنْي المال، ليُعاودنَ الرجوع إلى مناطق الصقيع في بلدانهن، رغم حياة السُّخرة والفقر المدقع. لقد كان السبب، هو الحنين للوطن «الحقيقي» الذي لم يجدنه في مهجر النعيم ورغيده. هذه هي الحقيقة.

قبل أيام، قرأتُ خبراً يفيد بـ «تصاعد أعداد الإسرائيليين الذين يتخلَّون عن جنسيتهم». فقد ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن «785 إسرائيلياً تخلَّوا عن جنسيتهم العام 2014». وكما أفادت «البيانات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الإسرائيلي، فإن عدد المتخلِّين عن جنسياتهم في تصاعد ملحوظ حيث سجل ارتفاعاً بنسبة 65 في المئة».

تبريرات بعض المتخلِّين عن الجنسية الإسرائيلية تمحورت حول «شعورهم بالخجل من حمل جواز سفر يُذكر فيه الجنسية إسرائيلية». وهو ما يفسِّر حالة العزلة التي تعيشها «إسرائيل» وصورتها السيّئة في العالم، نظراً لسياساتها الظالِمة بحق الفلسطينيين، والطوائف الدينية الأخرى كالمسيحيين والدروز والبدو الرُّحَّل في النقب، إلى الحد الذي يكره فيه الإسرائيلي جنسيته بسبب ذلك الظلم الواقع على أهل الأرض.

لكن أيضاً، هناك دواعٍ أخرى جعلت المتخلِّين عن جنسيتهم الإسرائيلية لأن يقوموا بذلك، وهي التي لها علاقة بالمصلحة الصرفة. فـ «القانون الإسرائيلي يمنع دخول وخروج الإسرائيليين الذين يحملون جنسيات مزدوجة بجواز غير الإسرائيلي»، وهو سبب لتخوّفهم من المساءلة لدى دولهم الأصلية، التي تمنع ذلك، وبالتالي فقدانهم للامتيازات في دولهم الأولى، وهو ما يعني خوفاً على مصالح شخصية لا علاقة لها بالمواطنة الحقة.

بل وحسب «يديعوت أحرونوت»، فإن «الجنسية الإسرائيلية تمنع من تقلد مناصب حساسة في بلاد أخرى إلاَّ بعد التخلّي عن الجنسية الإسرائيلية»، فضلاً عن رفض العديد منهم «الخدمة في الجيش الإسرائيلي وتصل حتى صعوبة الأوضاع الاقتصادية»، وهو ما يدفعهم إلى ترك جنسيتهم الإسرائيلية، التي أكْسِبوا إياها لأهداف سياسية بحتة.

قبل عامين، صُدِمَت «إسرائيل» بالبيانات التي أشارت إلى أن أزيد من 100 ألف إسرائيلي غادروا «إسرائيل» بين الفترة 2008– 2012، معظمهم من الفئة النابهة والشابة (بمتوسط 28 عاماً)، وممن ينحدرون من اليهود الأشكيناز كالأميركيين والكنديين والاستراليين والألمان، بل وحتى من روسيا، التي قَدِمَ منها مليون روسي قبل عقد ونصف.

وإذا ما عُلِمَ أن 600 ألف إسرائيلي لديهم جوازات أجنبية، فهذا يعني أن 9.7 في المئة من الإسرائيليين مُرشّحون أن يهجروا «إسرائيل»! وإذا ما عُرِفَ بأن 600 ألف إسرائيلي مثلهم يعيشون خارج «إسرائيل» فهذا يعني أن ذات النسبة (9.7 في المئة) غير فاعلة على الأرض، أي قرابة 19.6 في المئة من مجموع الإسرائيليين الـ ثمانية ملايين ومئة وثمانين ألف نسمة!

التساؤل المطروح الآن هو: كيف يُحبّ هؤلاء الأرض التي تجنَّسوا عليها وهم على هذا الحال؟ إنهم تُجَّار الخدمات والمصالح الخاصة، التي تجعل ربع الإسرائيليين يتهربون من الخدمة الإلزامية في الجيش. وعندما ينتسبون إلى القوات المسلحة، فإنهم يطلبون من رئاسة الأركان أقصى درجات السلاح والقوة التي يعتقدون أنها ستَقِيهم من خطر مُحدق قد يأتيهم من الفلسطينيين.

هذا الأمر يجعل المرء يتفكر في مستقبل «إسرائيل» كدولة. هل يمكنها الاستمرار في ظل سعيها لبناء شعب مصنوع بالقوة، أتاه الناس من كل حدب وصوب، ومن غير تجانس ولا حتى انسجام في الذوق؟ هذا أمرٌ مُحال. وقد رأينا كيف أن السعي إلى تغيير التركيبة السكانية منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي لم يجلب لـ «إسرائيل» الاستقرار أبداً.

صحيحٌ أن نسبة الإسرائيليين 75 في المئة (6.135 مليون إسرائيلي)، ونسبة العرب 21 في المئة (1.717 مليون فلسطيني)، ونسبة الجنسيات الأخرى 4 في المئة، إلاَّ أن الفارق الغالب لم يستطيع أن يفرض خيارات نهائية على مَنْ هو أدنى منه في النسبة. فغياب الأمن، وعدم توقف النمو الطبيعي لأصحاب الأرض الأصليين، لم يترك مساحةً للشعب المصنوع من أن يخلق لنفسه مستقبلاً مشرقاً ولا حضوراً في البنية الاجتماعية العامة على الأرض.

هذا هو منطق الأشياء التي يجب أن يعرفه الجميع حول معنى الأرض والوطن. فالقدم تشعر بالقدم عندما تشعر بالأرض كما كان يقول جوتاما بوذا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4506 - الأربعاء 07 يناير 2015م الموافق 16 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 6:15 ص

      مقال جميل

      الإسرائيليين الذين يتركون الجنسية الاسرائيلية يفعلون ذلك للإستفادة من الفرص العلمية و الاقتصادية في الدول الاخرى لكن بدون ترك حبهم و شغفهم و اخلاصهم لاسرائيل وهم يعلمون انهم يستطيعون الرجوع الى اسرائيل متى رغبوا في ذلك. نفس الشيء ينطبق على الكثير من المجنسين ممن قابلتهم و سألتهم عن المصلحة في الجواز البحريني حيث كانت الاجابة المصلحة الاقتصادية و تبعاتها من التعلم في الجامعات و التشافي بالاضافة الى تمكنهم للرجوع الى الوطن الام اذا حدث حادث حيث ان العشيرة هناك موجودة للشهادة بإصلهم.

    • زائر 12 | 5:37 ص

      خمسون عاما ولا زلنا ننتظر الجنسية.

      شكرًا لك على هذا المقال الجرئ يا محمد.
      لا زال طلبنا في الادارة العامة للهجرة والجوازات لم يبارح مكانه ، ونحن في البحرين ومن مواليد البحرين ومن أم بحرينية وأب خليجي وتقدمنا بطلب للجنسية ولكن للأسف لم نحصل عليه حتى الان ، البحرين ستظل في القلب حتى لو كان الجواز مو في اليد !!

    • زائر 11 | 4:38 ص

      عش رجبا ترى عجبا

      توجد شرائح كثيره من الناس في المجتمع تشعر بعقدة الهويه سواء من المستعربين او المتبحرنين من .........................واغلبهم يقول انه الاصل ومادونه فقد جلب من مناطق اخرى وشغلهم الشاغل هو افناع الناس بذلك والمشكله تشكل للكثير منهم عقده على كل حال المثل يقول اللي على رأسه بطحه يتحسسها

    • زائر 10 | 1:22 ص

      ما حك جلدك غير ظفرك

      لا فض فوك اخوي محمد على المقال الرائع ؛ فهو ثقافي .... تحليل مبسط به معاني كثيرة.

    • زائر 9 | 12:31 ص

      مو مصدقين نفسهم

      هل سيتخلي .... هنا عن جنسيتهم ويتروكون النعيم الذي وفرته الدولة ويعود الي بلادهم

    • زائر 8 | 12:26 ص

      اذا سلبت الحقوق والكرامة فما قيمة الجنسية؟

      فقرة مقتبسة من الكاتب(فالجنسية، علاقة قانونية تنظيمية بين الفرد والدولة لا أكثر: حقوق سياسية، وامتيازات اقتصادية، ودخول آلي في منظومة الخيارات العامة للدولة. إذاً، فالعلاقة ميكانيكية لا تُنتِج عواطف ولا مشاعر «بالضرورة» كي يتكرّس الانتماء وحب الأرض.)
      نقول إن اظلم ظلامة بحق هذا الشعب ان تصبح جنسية بلده ارخص سلعة في سوق النخاسين وسيعلم الذي سلبوا هذه الشعب حقوقه أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين

    • زائر 6 | 11:54 م

      مايحب البلد

      مايحب البلد الا ابن البلد وانته قلت لا زالوا سكان استراليا الاصليين متمسكين بالارض يعني الاصيل مستحيل يهجر ارضه

    • زائر 4 | 11:05 م

      مشكور أخ محمد

      ياليت ربعنا يعرفون هل كلام بذل التعامل مع أعداء البحرين وصايرين لهم وكلاء ويضهرون الفقر والعازه ويتفيقرون لغير الله

    • زائر 3 | 10:21 م

      معلومة

      اسرائيل قوة استعمارية ستزول كمثيلاتها من القوي التي احتلت المنطقة. اليهود الشباب يأتون من كافة دول العالم كل عام في عطلاتهم الصيف للتدريب في الجيش الاسرائيلي. لا تعترضهم دولهم المؤيدة لإسرائيل. قابلتهم خلال رحلاتي في الخارج. سألت نفسي مرارا لو العرب المهاجرين لنفس الدول، لو سافروا الي بلدانهم الأصلية و تدربوا عسكريا؛ هل تقبل تلك الدول بعودتهم ؟

اقرأ ايضاً