العدد 4515 - الجمعة 16 يناير 2015م الموافق 25 ربيع الاول 1436هـ

الدِّين في فرنسا

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

شارلي إيبدو (CHARLIE HEBDO) مجلة فرنسية، لا تزيد صفحاتها «الأسبوعية» على 16 صفحة (العدد الأخير اقتصر على 8 صفحات فقط) وسعرها لا يتجاوز 3 يورو (1.350 دينار بحريني). قبل اعتداءات الأربعاء على مقرات المجلة كان توزيعها هَبَطَ إلى 30 ألف نسخة. وبعضهم قال إنه وصل إلى 60 ألف نسخة في أقصى حال.

بعد الحادث، وصلت النسخ المطبوعة للمجلة إلى ثلاثة ملايين نسخة. بمعنى أن نسبة التوزيع تضاعفت 100 مرة! وبدل أن تبيع بـ 90 ألف يورو، باعت بـ 90 مليون يورو! وبعد أن كانت المجلة على حافة الإفلاس، باتت اليوم في وضع مالي مريح جدّاً. ففي خمسة أيام «جمعت المجلة» أزيد «من مليوني يورو» منحتها إياها عدة جهات رسمية وتجارية وأهلية.

صندوق «صحافة وتعددية» منح «إيبدو» 100 ألف يورو. أما البنك العمومي للاستثمار في فرنسا فقد اشترى 50 اشتراكاً «لمقره الرئيسي وفروعه». صندوق الودائع قدّم دعماً بطريقة أخرى. جمعية الصحافة الفرنسية قدمت مئتي ألف يورو. ومنظمة «صحافيون بلا حدود» قدمت دعماً كذلك. كما قفز عدد مشتركي المجلة إلى ثلاثة عشر ألف مشترك.

الحقيقة، أن ذلك المشهد من الدعم السخي لمجلة «شارلي إيبدو» من مؤسسات وأفراد، في داخل فرنسا وخارجها لا يمكن ربطه فقط بمسار اقتصادي أو إنساني صرف، جاء في لحظة عاطفية استثنائية. فالموضوع له صلة أيضاً بجوانب ثقافية. بمعنى، أن هناك نظرة ثقافية مختلفة للدِّين داخل فرنسا، دفعت بكل هؤلاء لأن يتعاطفوا مع مجلة ساخرة من الأديان السماوية جميعها، وليست لديها أية خطوط حمراء تجاهها، الأمر الذي جعلها محل عِداء مع اليهود والمسيحيين والمسلمين بدرجات مختلفة.

فالمعروف أن الدِّين في أوروبا ليس له حضور كبير في الأوساط الاجتماعية، فضلاً عن الدولة، وتحديداً في المناطق الشمالية منها حيث الدول الاسكندينافية، ويكاد ينعدم في المناطق الواطئة حيث هولندا، وفي أجزاء من سويسرا حيث يكثر الإلحاد. لكن صورته في فرنسا مختلفة أيضاً، وهي تعود إلى جذور قديمة تكاد تصل إلى 230 عاماً خلت.

الحقيقة، أن دراسة مسألة الدِّين في أوروبا وبالتحديد فرنسا أمر بالغ الأهمية. وقد وجدت أن كتاب «THE AGE OF REVOLUATON» مادة جيدة لأن نستعرض (عبر تنصيصه والتعقيب عليه) من صفحاته جزءًا من ذلك التاريخ المُفسِّر للحاضر، والذي من خلاله يمكن قراءة طبيعة المجتمع الفرنسي في هذه اللحظة.

لقد كانت المسيحية أكثر ندرة «في أوساط العلماء والكُتَّاب وعِلْية القوم الذين حددوا المسارات الفكرية في أواخر القرن الثامن عشر». وكان رد العالم الرياضي لاباس على سؤال نابليون له حول الله، قمة الإلحاد. وإن كانت هناك قناعات وإيمان خلال تلك الفترة، فإنها كانت من نصيب «الماسونيين الأحرار: عقلانية، مستنيرة، معادلة للكهنوت».

وقد بدأ ذلك «الإلحاد» أو الابتعاد «عن الدِّين المسيحي» يتجذَّر شيئاً فشيئاً في أوساط الطبقة الصناعية، الذين بدأوا «يُبدون الشك في أية قوة إلهية». وقد سعى الفلاسفة إلى تكريس مبدأ أن «المعايير الشخصية للمفكرين الأحرار أفضل من المسيحية».

في لحظة التحوُّل تلك، كان البديل الأوسط ما بين الإيمان التقليدي، والعبور إلى الإلحاد هو «تطوير منظومة أخلاقية بورجوازية غير مسيحية لكنها تعادل المسيحية» قائمة على «أسس عقلانية» أو كما سماه أوغست كونت «دين الإنسانية».

لقد «عُلمِنَت التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى» في فرنسا وخارجها. وقد بدا أنه «وللمرة الأولى في التاريخ الأوروبي، غدت المسيحية لا ضرورة لها». بل وقد «غَلَبَ الطابع غير المسيحي على اللغة والرموز والملابس العام 1789». وبات المتأثرون بالدِّين يُظهرون «لامبالاة» تجاه «الدِّين المنظم». لقد أدى هذا الانفجار للعلمانية في فرنسا إلى سيلانه للمحيط.

فقد تمدد باتجاه مهد الثورة الصناعية. فخلال العام 1851 «لم تكن ثمة أمكنة لإقامة الكنائس إلاَّ في 38 في المئة من المناطق المأهولة في شيفليد و32.2 في المئة في ليفربول ومانشستر»، «وطُبِّقت أساليب البحث التاريخي بكثافة لا سابق لها على الكتاب المقدس». وفي ألمانيا، شكَّك كارل لاشمان في أن «تكون الأناجيل شهادة عيان»، معرباً عن «شكه في أن يسوع المسيح كان يعتزم إقامة دين جديد». كانت تلك صدمة كبيرة.

وفي لحظة ما، بدت أوروبا تحت تأثير العلمانية المتدفقة من موجات الثورة الفرنسية بشكل مطلق. «ففي الفترة بين العامين 1789 و 1848 أُلغِيَت أدْيِرَة الرهبنة، وبِيْعَت ممتلكاتها في مناطق تمتد من نابولي إلى نيكاراغوا». لقد أصبح هناك اتجاه عند «الحكومات والأجهزة العلمانية الأخرى إلى أن تتولى هي نفسها الأنشطة التي كانت تقوم بها» الكنيسة.

بالتأكيد، فإن لكل هذا جانب سياسي أيضاً. فالثورة الفرنسية مَنَحَت السياسة في فرنسا وخارجها مفهوماً بأن «الدِّين قد وفَّر الاستقرار الاجتماعي للأنظمة الملكية وللأرستقراطية، بل ولكل أولئك الذين احتلوا قمة الهرم الاجتماعي»، وأن «الكنيسة هي العماد الأقوى للعرش»، وبالتالي هو المسئول عن الاضطهاد والتمييز. هذا التاريخ من التمرُّد على الدِّين المسيحي، خَلَقَ رؤية ثقافية مختلفة في أوروبا، لكن تحديداً في فرنسا، التي جَرَّت السبحة لتبني العلمانية المتشددة في قِبال الدِّين في كامل أوروبا.

هنا، نصل إلى رؤية المشهد الفرنسي في هذه اللحظة ونحن نقرأ أحداث «شارلي إيبدو». فقد اتَّسَمت جميع التعبيرات والشعارات المرفوعة والتي رافقت التضامن مع المجلة، بلحظة العام 1789 حين اندلعت الثورة الفرنسية، وما تبعها من رؤية راديكالية ضد الدِّين. وبات الفرنسي يهز كتفاً وهو يقول: «لا أفهم هذا الغباء! كيف لرسومات أن تدفع أشخاصاً بأن يقوموا بقتل رساميها». إن هذا الشعور هو الغالب لدى الفرنسيين اليوم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4515 - الجمعة 16 يناير 2015م الموافق 25 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 6:04 ص

      متابع

      أقول هذا لأنني فعلا كنت أريد الهجرة إلى هذا العالم في فترة من حياتي ، ولا تزال أفكار الهجرة تداعبني بين الحين والآخر ، ولكن أتردد حين أقرأ عنهم ما يجعلني أخاف أن أعيش في وسط موبوء ، و أريد أن أحسم الأمر

    • زائر 4 | 6:01 ص

      متابع

      ما يهم هنا أن نعرف ما هو تأثير تراجع الدين هكذا على المجتمعات الأوروبية ، كيف أثر على حياتهم أسرهم أهدافهم نظرتهم للحياة وغيرها ، ما مصير مجتمع يعيش بلا دين ؟ كان مقال (( لماذا ينتحرون )) عن سويسرا يقدم صورة عن نتيجة هذا الأمر ، وجميل أن نعرف باقي الصور ، نريد أن نعرف كيف يعيش الغرب ، نريد أن نعرف هل هم في جنة كما يصورون لنا ؟ نريد أن نعرف هل الهجرة إلى ذلك العالم تستحق أم لا ؟ نريد أن نعرف ما نأخذه و ما لا نأخذه من هذه الحضارة المسيطرة على العالم اليوم يا أستاذ محمد

    • زائر 3 | 3:56 ص

      متابع . . . لفتة صغيرة حول فرنسا

      من الصعب الجزم بنسبة التدين وعدمه بين السكان في فرنسا بالتحديد ، فبما أن الدولة الفرنسية لا تجمع أي إحصاءات عن التدين، لا توجد أرقام رسمية حول التطورات الأخيرة في التركيبة السكانية الدينية ، لذلك نرى مؤسسة كـ(يوروباروميتر ) تضع نسبة اللاتدين بما يقارب 30% ، ومؤسسة أخرى كـ(جالوب) تضع النسبة بين 43-54% ، ولا أدري ما هي المقاييس التي اعتمدوها فمن الصعب سؤال ( جميع ) السكان .
      على كل حال الله العالم ، و لا أهمية كبيرة لكل هذا ففي النهاية النسب كبيرة . . . للكلام تتمة بعد الصلاة

    • زائر 2 | 1:10 ص

      هو فعلاً غباء

      الكلمة تواجه بالكلمة و إلا فإن العالم سيحترق عن بكرة أبيه إذا رفعنا عنوان عدم التعرض للمقدس لأن جميع البشر لا يتفقون فيما بينهم على ما هو مقدس و ما هو غير مقدس لأن المقدس نسبي، ما هو عندي مقدس عندك غير مقدس و العكس ، و فتح باب القتل بهذا العنوان سيشعل حرب و مجازر رهيبة ستفني العالم كله.

    • زائر 1 | 12:30 ص

      مواقع شعبية للتبرعات

      بعد الحادثة تم إنشاء مواقع على الانترنت لجمع التبركات للمجلة ساهم بها عامة الفرنسيين

اقرأ ايضاً