العدد 4534 - الأربعاء 04 فبراير 2015م الموافق 14 ربيع الثاني 1436هـ

ليست القرود وحدها تشاهدكم!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هل فكرتَ/ فكرتِ بإجراء عملية تجميل؟ ربما كنتما (أو غيركما أو غيركم وهم كُثُر) فكَّرتما بذلك. بل كثيرون قاموا فعلياً بإجراء عمليات تجميل في أماكن عدة من أجسادهم.

قبل أربعة أعوام أُجرِيَت حوالى 19 مليون عملية تجميل في العالم، فضلاً عن أن البشر يستهلكون سنوياً ثلاثة ملايين من حقنة البوتوكس. نعم، البعض قد يلجأ إليها مضطراً كإزالة الندوب الناتجة عن عمليات جراحية سابقة وغيرها من الأسباب المعقولة. لكن كثيرين لا يلجأون إليها لتلك الأسباب. فمَنْ يجِد أنفه أفطسَ سعى لتقويمه. ومَنْ وجدتْ في حاجبيها علواً أو انخفاضاً «رقَّقَتهما ودقَّقتهما وطوَّلتهما واسْتقْوسَتهما».

ومَنْ استكرش بطنه لجأ إلى إزالته بالجراحة وخلافها بدل الرياضة والحِمية المرهقة. ومَنْ رامت جمالاً أزيد في وجهها سعت لأن تجعل عينيها دُعْجَةً تحقيقاً لـ «شدَّة سواد سواد العين، وشدة بياض بياضها مع سعتها» كما في الوصف.

في جانب آخر من الصورة، التي هي أبعد من عمليات التجميل، يوجد مَنْ يعيشون العوز والفاقة بيننا، أو عدم اليسر في أقل الأحوال، لكنهم يستدينون المال من هنا وهناك، كي يلبسوا الجميل، ويتجلَّلوا (هكذا يعتقدون) بكل ما يحفظ مكانتهم، وذكر الاسم في المحضر.

بل آخرون، أصبحوا يخجلون حتى من نَسَبِهِم وأصولهم، فتراهم ينتحلون الألقاب والأسماء الرفيعة، ويلصقون أصلابهم عنوةً إلى هذا الفخذ أو ذاك البطن، أو إلى «الأسماء» الثرية، أو لمنْ له حظٌ في عِلْم أو حُكم أو منزلة ما، ويتركوا نسب آبائهم وكأنه عار.

يفعل أغلب (أو كل) أولئك ذلك طمعاً في المظهر الحسن أمام الناس شكلاً ولبساً وذِكراً. وقد نقل مازيار بهاري في مجلة «نيوزويك» مرةً أن سياسياً بإحدى الدول قال في وقت سابق بأنه كان «يكره أن يظهر في الصّور، لأنه يخجل من حجم أنفه»!

في التراث نُقِلَ أن الشاعر المعروف مروان بن محمد والمشهور بأبي الشَّمَقْمَق «قد لزم بيته لأطمارٍ رثّةٍ كان يستحي أن يخرج بها بين الناس». وفي قصة أخرى «قيل لعربي: أترضى أن تكون باهلياً وتدخل الجنة فقال: لا، إلاّ بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي»؛ لأن العرب كانت تُعيِّر بني باهلة وتستنقص من مكانتهم.

الحقيقة، أن نماذج الحاضر والتاريخ لا تنتهي في طرق الناس للتخفي والتحوُّل والظهور بغير أشكالها وواقعها. ولو أرجعنا «أغلب» تلك الحوادث لأصولها لوجدنا أن مردها هو الناس أنفسهم، الذين لا يتوقفون عن النظر إلى بعضهم، يحملقون في هيئة هذا وطلعة ذاك، متهكمين أو متندرين، أو مستخدمين ذلك وقوداً للهراء، ومن ثم التشهير بالناس.

ولو أن الجميع قد قَبِلَ بكل هذا التنوع في الأشكال والأسمال والأسماء لعاش الناس بسلام وطمأنينة غير متكلِّفين في معاملاتهم مع بعضهم. لذلك فإننا نجد العالم كله (وبفعل ذلك الهروب من الواقع) قد أصبح كذبة كبرى لا ذرة للحقيقة فيه؛ فلم تعد أشكال البشر هي ذاتها حين وُلِدَوا، ولم يعد لهم دليل «لحقيقتهم» سوى جيناتهم.

والأمر ينسحب على أسماء الكثيرين وما يلبسون، والتي لم تعد تفسِّر عسراً أو يساراً. وهذا في جوهره جناية كبرى يرتكبها الناس بحق بعضهم، إلى الحد الذي تجعلهم مُشرَّدين في هويات مُنتَحَلة لهيئات كاذبة، خوفاً من الراصدين والمتطفلين. تسمع الهمس وهو لا ينتهي: هذا به رَمَد في عينه، وذلك به قُلاع في لسانه، وهذا فيه رَثْيَة في يديه، وذاك به حَنف في ساقية، وهذا مصاب برُداع في جسده، وذاك بخُزَرَة في ظهره وهكذا.

أو يتهامسون في الأنساب والأصلاب: هذا ولد هَجين لعربي وأعجمي، وذاك مُقْرِف لـحُرٍّ وأَمَة، وهذا وُلِدَ خديجاً وذاك أبوه (كان) عِربيداً، ثم يأتي الحديث عن الأخ والأم والأخوال حتى الدرجة الرابعة من القرابة، لتنتهي أمور الناس وخصوصياتهم إلى الشياع في المجالس المفتوحة، يتناقلها العامة والخاصة، يزيدون فيها ويُنقصون، لتنتهي الأمور إلى الجحيم.

الغريب، أن هؤلاء الذين نُسمِّيهم بـ «المراسلين عن بُعد»، يبذلون وقتاً في متابعة شئون الناس، لو بذلوه في عِمَارِ بلد لقامت أبنيتها وشهقت. لكنهم يجترون الساعات بالساعات في القيل والقال، وتشريح حياة الآخرين، وإقلاق مضاجعهم.

كما أن أولئك البشر حين تقترب النار من أرجلهم، فإنهم لا يرضون على أنفسهم أن يتلوا الآخرون حياتهم وما فيها ويعتبرونها تعدياً على بيوتهم ومستقبل سمعة أبنائهم، متناسين القول المأثور عن الأفغاني: «أقرب موارد العدل القياس على النفس».

أختم حديثي بخبر طريف نقلته وكالة الأنباء الألمانية، يتناسب تفصيله مع ما أشرت إليه من تلصص البعض على الناس والتطفل عليهم. فقبل حوالي 7 أشهر افتُتِح فندق في العاصمة الألمانية برلين. وفي غمرة النشوة المصاحبة لعملية بيع الغرف الجديدة المطلة على مناظر مبهجة وحديقة الحيوان، اكتشف القيّمون عليه أن خطأ فنياً قد حدث في أحد التصاميم الهندسة جعل المارة في الشارع قادرين على مشاهدة مَنْ بداخل دورة المياه (بأحد مطاعمه) من نزلاء الفندق دون أن يلتفتوا لذلك.

الخطأ تمثل في وجود دورة مياه المطعم في الطابق الواقع مباشرة أسفل السقف. وبعد أن قام بعض المارة المتطفلين بالتقاط صور لنزلاء في دورات المياه ذات العيب الهندسي، قام مسئولو الفندق بوضع تنبيه داخل دورة المياه مكتوب فيه: «نرجو الانتباه، ليست القرود وحدها تشاهدكم»، في إشارة إلى وجود الفندق أمام حديقة للحيوان.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4534 - الأربعاء 04 فبراير 2015م الموافق 14 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 5:01 ص

      من الأقوال الجميلة

      الإنسان الناجح هو الذي يغلق فمه قبل أن يغلق الناس آذانهم ويفتح أذنيه قبل أن يفتح الناس أفواههم

    • زائر 2 | 12:48 ص

      شكرا على الإلتفات لهذا الموضوع

      الناس بأفعالها زادت فضول المتلصصين
      بات الكل يحب نشر تفاصيل حياته

    • زائر 1 | 11:08 م

      ومثلما قيل

      من راقب الناس مات هماً

اقرأ ايضاً