العدد 4553 - الإثنين 23 فبراير 2015م الموافق 04 جمادى الأولى 1436هـ

كيف تحكم شعباً يتعاطى «الواتس أب»؟

عصمت الموسوي

كاتبة بحرينية

في فيلم أميركي شاهدته قبل سنوات، يقوم الحبيب العاشق بإرسال باقة ورد إلى حبيبته كل يوم، وفي اليوم الأخير يلتقيها، فيرى الشقة وقد امتلأت بالكامل بالزهور ولم تبقَ فيها أية مساحة فارغة. تنظر إليه بعتب وتتساءل: هل بقيت زهور في المدينة؟ فيجيب: لا، كلها عندك.

عن «الواتس أب» أتحدث وعن باقات الزهور وبطاقات الأدعية والتبريكات وصباح الخير وجمعة مباركة... إلخ، التي تطرق هواتفنا بلا استئذان ليل نهار، فتغص بها هواتفنا الصغيرة، ونقضي وقتاً طويلاً على حساب رقابنا وظهورنا وعيوننا لمحوها وإفساح المجال لرسائل جديدة. نقول بلطف لأحبتنا وأصدقائنا في العالم الافتراضي: لا ترسلوا الزهور ودعونا نتشارك عبر هذا المقال في اقتناص أجمل إيجابيات «الواتس أب» وتجنب مساوئه.

«الواتس أب» وسواها من وسائل التواصل الالكتروني تقنيات عصرية إبداعية أنتجتها مجتمعات متقدمة. إنه عالم واسع وبلا حدود، كونه يجمع بين البيانات من خلال الكتابة والصورة والفيديو ويفتح للمستخدم آفاقاً كبيرة وبلا حدود للاتصال والتواصل واكتساب المعرفة والتعلم والتدريب والترفيه... وفي شتى المجالات.

إن صيغ المجاميع (الجروبات) التي أوجدها عزّزت الحوارات والتشارك المعرفي والمعلوماتي وتبادل الآراء من سياسية وعلمية وحقوقية وعائلية، وقرّبت الأباعد ووطّدت العلاقات العائلية ووسّعت صداقات المرء وعلاقاته، ووجد فيها أصحاب الأعمال و«البزنس» والشباب وسيلةً ميسّرةً ورخيصةً للانطلاق بمشاريعهم التجارية والترويج لها، كما ساهم في نشر الفعاليات والأنشطة والدعوات على نطاق واسع، مقلّلاً من استخدام الورق. فمن يتصور أن لجاناً تتشكل واجتماعات تجارية وعلمية واقتصادية تُدار وتُجرى وتنتهي إلى نتائج وخلاصات عبر «الواتس أب»، مختصرةً الكثير من الوقت والجهد والمال والمشاوير المرورية.

الكثيرون يرونه مكاناً لاختبار أخلاق الناس، الايجابي والسلبي، الغضوب والعصبي، والنزق والمزاجي، والنرجسي والقيادي، والمتسامح والباحث عن دور، الحذر الخائف والجريء المغامر. عرّفنا على اهتمامات معارفنا وأصدقائنا الظاهرة والمستترة الكامنة... فـ «قل لي ما ترسل أقل لك من أنت».

بيد أنه بالمقابل، أحدث تحولاً كبيراً في نمط الحياة والعلاقات الاجتماعية وطريقة تزجية الوقت، وجعل مستخدميه في حالة إثارة دائمة وتوتر وانفعال، وأوجد لديهم هذه الرغبة المحمومة للبحث عن الجديد والغريب والمثير، والتواصل في كل شيء عن أي شيئ، في كل لحظة وفي أي مكان. إذا ضاقت عليهم الحياة أرسلوا رسالةً لكي يستمر مدد «الواتس أب» ولا ينقطع لحظة واحدة. غيّب من حياة الكثيرين لحظات الصفاء والنزوع إلى التأمل والهدوء والسكينة والاسترخاء والسلام واستثمار لحظات الفراغ والسعادة الذاتية والهوايات والتفرّغ التام والاستمتاع الكلي بالحياة خارج نطاق «الواتس أب».

لقد عوّد البعض على الاكتفاء بالمعلومات والأخبار المبعثرة المتنوعة وما هبّ ودبّ من مصادر، بديلاً عن الكتاب والقراءة المعمقة. ألغى آداب الحوار والمجالس، وأصبح مألوفاً أن ترى الضيف والمضيف يجلسان قبال بعضهما البعض وهما منشغلان بالهاتف. أخلّ بقواعد وأصول المهن، فالمدرس والطبيب والمهندس وحتى العامل البسيط يسرق من وقت عمله كي يتواصل مع «الواتس أب»، وقضى على النظام وتنظيم الوقت، وأوجد شغلاً وهوايةً للمتعطلين والمتقاعدين وأصحاب الفراغ الكبير، فـ «أنا موصولٌ (بالواتس اب) إذاً أنا موجود».

وبقدر ما وجد فيه البعض أداةً لتبادل المعرفة، وجد فيه آخرون وسيلةً لنشر التوافه والمعلومات المضللة والعبثية والشائعات والأكاذيب وفيديوهات العنف والحرق والنحر وحوادث السير المروّعة.

في العام 2009 خرج «واتس أب» إلى النور، بعد عامٍ انطلقت أحداث الربيع العربي في تونس ثم مصر، ووجد فيه الشباب إضافةً إلى «الفيس بوك» و»تويتر» ساحةً لإطلاق الدعوات للتظاهر والتحشيد، وسرعان ما سرقت هذه التقنية السبق الصحافي من الصحف ومنحتها لأي عابر طريق يلقى حدثاً أمامه. عزّزت صحافة المواطن الذي يحمل كاميرته معه في كل مكان ويسجّل ويوثّق ويرسل مشاهداته، ومكّنَت الأفراد العاديين من أن يكون لهم رأي وصوت وكلمة ومنبر خارج دائرة الإعلام العربي الموجّه الذي يكاد يفقد مسوّغ وجوده. وشكّلت وعي الناس بعيداً عن الرقابات الحكومية والتابوهات الاجتماعية والدينية وغيرها، ما أفقد الحكومات مجالاً آخر للسيطرة والتحكم بالمعلومة والرأي.

لقد دخلت تقنيات الاتصال المتطوّرة إلى حياة أمة العرب قبل أن يختبروا الديمقراطية الحقيقية وتداول السلطة وممارسة الحرية وحكم القانون والمساواة والعدالة والصحافة الحرة وسلطة الشعب المكفولة في الدساتير الديمقراطية. إنه تطبيقٌ آخر ونموذج آخر للتغيير الخارجي الأسبق والأسرع من التغيير الداخلي الذي أشرت إليه في مقال سابق تحت عنوان «الخوف من التغيير».

إن هذا الفضاء المفتوح وغير الخاضع لأي قانون ولا عرف ولا رقابة بين مستخدميه، يجعلنا نتذكّر كلمة الرئيس شارل ديجول: «كيف أحكم شعباً يأكل 346 صنفاً من الجبن»؟ ولو عاش ديجول إلى يومنا هذا لقال «كيف أحكم شعباً يتعاطى الواتس أب؟».

إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"

العدد 4553 - الإثنين 23 فبراير 2015م الموافق 04 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 18 | 5:59 ص

      الواتس آب

      شكرا على المقال الجميل جدا ..
      و انه من الي ما يحبون الواتس ولا يدخلونه
      بالاسابيع و الشهور ,, و لآ يوجد عندي آخر ظهور
      بسبه الناس الفضولية و الي تراقب و يستخدمونه بطريقه سيئه
      مراقبه الناس .. يعني الواحد آخر وقته بينام يمسك التلفون بيقرأ جمن شي
      ما يقدر , يشوفونك متصل .. يعني رحنا فيها من السوالف الي ما تخلص
      الله يعيين الاجيال القادمه

    • زائر 14 | 6:39 ص

      الواتساب مزعج و موتر

      كيف أحكم شعباً يتعاطى الامراض الاجتماعية؟

    • زائر 13 | 5:59 ص

      أقل ما يقال في هذا المقال إنه مقال رائع

      نشكرك على الموضوع السابق الخوف من التغيير, والموضوع الحالي الذي مزج بين الموضوعية والهزل كهزلية برنارد شو , نختم عند الكاتبة .... الموسوي لنقول من لم يؤدبه دين المصطفى أدبا ً محضا ً تحير في الأحوال و أضطربا.

    • زائر 11 | 4:51 ص

      موضوع مهم

      موضوع مهم ....نتمنى المزيد من المقالات ...في الأيام المقبلة

    • زائر 9 | 2:40 ص

      ادمان من نوع اخر

      ادمان الواتس أب اصبح له أعراض المدمنين على اي اداة ادمان تجلب النشوة والسعادة ولكن هناك ثمن باهض وراء هذا الادمان من صحة رقابنا واعيننا وكذلك الصحة النفسية لانه يجلب التوتر

    • زائر 8 | 2:26 ص

      كل ما تفضلتي به وعلى اهميته

      الناس العاديين استفادوا منه اكثر مما استفاد منه المسئولون والقادة ، لم نسمع او نرى رسالة ولو تهنئة من مسئول او رئيس دولة لشعبه على ( الواتس أب ) قد يتواصلون ويتابعون ولكن لهم عالمهم الخاص ( المسئولين ) اقصد ، مع انه اداة للتواصل لها فعاليتها .

    • زائر 10 زائر 8 | 4:06 ص

      ام حسن

      عجبني ردك ولكن انت تحلم بالمستحيل

    • زائر 7 | 1:58 ص

      لم أعد احتمل هذا الوتسب فألغيته

      في البداية اعتقدت انه برنامج مفيد ووسيلة مهمة للتواصل الا اني سرعان ما اكتشفت انه مزعج وبات يوترني كلما وصلتني رسالة، لم اعد اتحمله فالغيته.

    • زائر 6 | 1:47 ص

      صحيح

      صحيح ما ذكرت لان الواتس اب اصبح يسرق الوقت بطريقة خفية فيأتي المساء والانجازات ضئيلة واسوأ ما فيه انه يسرق وقت الام من اطفالها والانسان من عبادته لربه..تعطل هاتفي يومين فاحسست بالسكينة والسلام الداخلي الذي طالما قرأت عنه ولم أعرفه

    • زائر 5 | 1:30 ص

      مقال رائع

      سلمت الايادي

    • زائر 4 | 11:30 م

      أهلا بها الطلة أهلا

      أسعدتني طلتك اليوم بالوسط فانا من القارئات لك عزيزتي وعسانا ما ننحرم منك وموضوعك جميل وهام جداً وبصراحة عجيب أمر بعض الناس عندما يمسكون الهاتف في مكان ما قد يكون فرح أو عزاء أوجلسة أهل أو معارف وكل واحد أو وحدة منهمك مع التلفون ولا يدري بلي حواليه طيب ليش قاعدين وي بعض كل واحد بروح بيته ومثل ما تقولين ألواتساب زين شين لكن لازم يستعمل بطريقة صحيحة وبصراحة عجزت وأنا امسح في الصور اليومية وأقول لك صباحك طيب يا طيبة

    • زائر 3 | 11:25 م

      ننتظر مقال حول

      نظرت عصمت الموسوي لمستقبل الثورات العربية ونهضة الامة العربية فكريا وثقافيا

    • زائر 2 | 11:11 م

      رائع

      اسلوب ممتع وراقي

    • زائر 1 | 9:46 م

      موضوع شيّق

      موضوع كله على بعضه شيّق ومفيد، وجردة قلم حاذق وخبير عن ما أضاف لنا الواتساب من فضاء وأختصر من جهد… موضوع جميل جداً بارك الله فيك سيدتي.

    • زائر 19 زائر 1 | 9:42 ص

      وصلني هذا المقال عبر الوتس اب

      بالنسبة لي لا ارسل الا المهم لان كثرة الغير مهم تضيع عليك المهم وشكرا

اقرأ ايضاً