العدد 2492 - الخميس 02 يوليو 2009م الموافق 09 رجب 1430هـ

الحركة الإسلامية بين الانتماء للطائفة والتعبير عن الأمة (1)

في البدء فإن حديثنا هذا يتنزل في فضاء اجتهادي يحتمل الخطأ والصواب، وليس في فضاء عقائدي لا يتحمّل إلا الحلال والحرام. من هذا المنطلق فإني أزعم أن حديثي صائب يحتمل الخطأ، ورأي مخالفي خطأ يحتمل الصواب.

إن الحديث عن التغيير ذا شجون، والتأمل في أوضاع الأمّة المتأزمة والمهزومة يملي مشروعية طرحه مجددا، على رغم أنه مبحث قُتل دراسة وتنظيرا.

لقد شهد العالم الإسلامي في هذا القرن صحوة تغييرية شاملة ساهمت فيها أطراف مختلفة ومشارب متنوعة وأيديولوجيات متعددة، هدفها التمكين وإخراج بلدانها من ربقة الاستعمار والتخلف والتبعية والاستبداد، إلى أحضان الحرية والعدل والتقدم والازدهار. وقد كانت الحركة الإسلامية رقما مهمّا وفاعلا في هذا الإطار، غير أن مشوارها التغييري ومنهجياتها المطروحة شابتهما الضبابية أحيانا والتشتت والاختلاف أحيانا أخرى، وطُرح الشيء ونقيضه، وساهم الداخل والخارج في تحييدها أو تحجيمها طوعا أو كرها، ففشل غالبيتها في الوصول إلى الهدف الذي كرست مسيرتها من أجل تحقيقه، على رغم توفّر الزخم الجماهيري والمعطى الثقافي والمرجعية الدينية.

وتعددت التساؤلات والإجابات بشأن الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل، فمن ابتلاء وجب قبوله حتما والصبر على تجاوزه، إلى عقاب استحقته لانزلاق بعضها وابتعادها عن روح الإسلام، إلى عدم فهم بعضها لواقعها الوطني وعدم إدراك للمعادلات الإقليمية والدولية وحتى الداخلية… إلخ.

غير أن سؤالا ظل غائبا أو منسيّا، وهو: لماذا لا يكون تحزب بعض الحركات الإسلامية نفسها هو أحد الأسباب الرئيسية والعميقة وراء هذا الفشل؟ هذا التحزب الذي اعتبرتْه هذه القطاعات من الحركة الإسلامية حقّا شرعيّا، ومطلبا سعت إلى كسبه، والعمل على الحصول على تأشيرة بروزه! وقد ساهم الداخل من سلطة ومعارضة، والخارج في اللعب على أوتاره، بين دفع وسحب، وتطميع وصدّ، والذي يبدو أن الحركة الإسلامية وقعت في حباله وكأنها تبحث عن حتفها بنفسها!


التحزب مواجهة للأمة

إن دعوة جل الحركات الإسلامية إلى التحزب وتبنيه وممارسته يجعلها طرفا في الصراع على السلطة، فتصبح ممثلة لمجموعة معينة، لها أبعادها وأهدافها وأدواتها ورجالها، وهو ما يقزِّم مشروعها، ويحجم تأثيرها، ويمكن أن يجرها إلى مواجهة الأمة من دون قصد منها. ففي منازلتها للسلطة القائمة تتعالى أصوات كثرة من الإسلاميين عن غياب السند من الأمة، التي في أحسن الحالات تلتزم الصمت والانسحاب، إن لم تكن طرفا مناهضا. لقد سمعت مرة أن أحد قيادي الحركة الإسلامية وهو من وراء القضبان ظلّ ينتظر ويتعجب كيف لم تقم الجماهير بمهاجمة السجن وإطلاق سراحه منه! وقد غفل الشيخ الكريم أنه أضحى هو وخطابه لا يمثلان كل الأمة، بل هو طرف في صراع يمثل قسما منها، محدود العدد والعدّة.

وعلى الصعيد الفكري يرى بعض المفكرين في الحزبية سبيلا إلى الطائفية، يسحب عن الأمة مسئولية إقامة الدين وعمارة الدنيا، ويجعلها في أيدي مجموعة مهما كبر عددها، هي تلك المجموعة التي اعتبرت نفسها - وحدها - تتحدث باسم الإسلام في مواجهة آخرين لا يتحدثون باسمه. وكان هذا الخطأ فادحا. فالأمة مكلفة ومسئولة، والحزبية تنزع أو تخفف عنها هذا التكليف، والخطاب القرآني واضح في هذا المجال إذ يلقي المهمة كاملة على الأمة وليس على طرف منها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ» (النساء: 135). وما يحصل الآن من تعدد للأوصياء على المشروع الإسلامي ومن تنوع وتباين شاسع في فهمه وتنزيله، يُعتبر تواصلا ولونا معاصرا للفرقية والمذهبية القديمة. وحتى إن اعتبرنا مزايا هذا التنوع في مجال الفقه من توسعة للأمة وتسيير لها، فإن الفرقية السياسية قديما وكذا الفرقية الحاملة للمشروع الإسلامي حديثا لم تنجح إلا في زيادة خلافات الأمة وتعميق تشرذمها، وفشل غالبيتها في الوصول إلى سدة الحكم. وحتى التي وصلت لم تترك لنا نماذج تُحتذى ونجاحات تُعتبر، لأن غياب الأمة كان ملازما لفشلها ولو بعد حين.


التغيير والمنهجية غير المحسومة

إن منهجية التغيير تبدو مرتبطة في جانب منها بالنظرة الحزبية للتغيير. فوجود الأمة كحاملة للواء التغيير أو انحساره في مجموعة أو حزب، يمثلان حالتين منفصلتين، ومسارين مختلفين. فبقدر ما يساهم التحزب في زيادة سرعة وكثافة العمل، وطي المراحل، بقدر ما تراهن الأمة على النفس الطويل والمنهجية الهادئة. والحقيقة أنه على رغم وضوح مواقف العقائد والمذاهب، وتفهمنا لمبررات نشأتها عقيديا وتاريخيا، إلا أن التاريخ الإسلامي وحاضره لم يحسما شرعية منهجية التغيير التي ظلت مترنحة بين الموالاة والمواجهة، وبين المنازلة والمناصرة، وظل السؤال بشأن من المصيب ومن المخطئ مجلبة للاختلاف ولنشوء المدارس والفرق والمذاهب. وبمطالعة تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي نجد أن الحاضر الإسلامي بقي مشدودا إلى تاريخه غير المحسوم، ومن دون أخذ العبرة من مجريات التاريخ والحوادث، وبقيت الأسئلة مطروحة. ودفع عدم الحسم هذا إلى تبني منهجيات مختلفة ومتباينة من أطراف الأمة التي تشكلت في أحزاب وطوائف، والذي عمق لاحقا الفرقة بينها.

على قطعة الفسيفساء هذه تشكلت الحركات الإسلامية الحديثة عبر واقعها الذي تنزل فيه الغامض والعنيف أحيانا، ومرجعيتها التاريخية المهتزة، وغلب على التحزب والفرقيَّة الدفع إلى منهجيات التغيير العنفي والمتسرع، وغابت الأمة... حيَّدتها السلطة حتى يغيب العتاد والعدة، وهمَّشها قطاع عريض من الحركة الإسلامية؛ لأنه ظن أنه قادر على حمل التغيير والفوز بالسلطان، فهو الجيل الفريد، والنخبة الواعية والصفوة الفاعلة!


الأمة المشروع هو مشروع الأمة

إن الحركة الإسلامية التي نرتئيها ليست ذات لون واحد ولا فكرة واحدة، بل هي مجموعة رؤى وأفكار وممارسات، تجمع في صف واحد المعارض للسلطة والموافق لها، تشمل التحريري (نسبة إلى أنصار حزب التحرير) والتبليغي (نسبة إلى جماعة الدعوة والتبليغ) والصوفي والزيتوني (نسبة إلى جامعة الزيتونة)، والسني والشيعي، والموَكَّلين بالكتاتيب وأئمة المساجد وخطباء الجُمع، حتى إن كانوا يأخذون خطبهم من السُّلطات القائمة ويتغافلون عن ظلمها طمعا في استمرار مسيرة الدعوة، وأعضاء هذه الحركة الإسلامية هم الجماهير، ومن يتبنى مشروع التمكين بلا مواربة، ومن لا يعرف من الإسلام سوى ركعات فرض تتبعها أحيانا ركيعات نوافل، أو من يعرف الله في رمضان وينساه فيما سواه، المصلي البسيط والصائم الأبسط والحاج المتقاعد، أو من يحمل في قلبه ذرة إيمان، وهم كثير. فالمشروع الإسلامي الذي يتبناه هذا الكلُّ الجامع ويُجمع عليه القاصي والداني منهم، بسيط في تعبيراته عميق في محتواه، وهو ما عنته آية التمكين من سورة الحج «الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ» (الحج: 41)، والتي سبقته آية النصر والمؤازرة الغيبية له «وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز» (الحج:40)، وفي هذا أكثر من مغزى.

العدد 2492 - الخميس 02 يوليو 2009م الموافق 09 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً