العدد 4596 - الثلثاء 07 أبريل 2015م الموافق 17 جمادى الآخرة 1436هـ

مُقاربة بحثية ترصد دينامية صُنَّاع منهج السيرة الحياتية

صدور العدد التاسع والعشرين من «الثقافة الشعبية»...

غلاف العدد التاسع والعشرين
غلاف العدد التاسع والعشرين

صدر العدد التاسع والعشرون من مجلة «الثقافة الشعبية»، التي تصدر من مملكة البحرين، بالتعاون مع المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV)، التي يرأس تحريرها الشاعر والباحث في الثقافة الشعبية، علي عبدالله خليفة، متنوعاً في موضوعاته المُعمَّقة والمُحكمة، بمساهمة متخصصين وأكاديميين من عدد من الدول العربية.

من أهم بحوث العدد بحث الكاتبة اللبنانية، مهيا كيَّال؛ حيث يأخذنا بحثها «السيرة الحياتية... منهجية وتقنيات بحثية»، إلى تجوال معرفي، ومقاربة بحثية هدفها رصد الدينامية الفكرية لصنَّاع منهج السيرة الحياتية، في مجالي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، كما يهدف البحث إلى تبيان غنى التراكم العلمي الغربي الذي أدَّى إلى تفعيل دينامية هذا المنهج منذ أكثر من قرن.

وأضاء البحث عدداً من التفصيلات في هذا المجال، من بينها: منهج السيرة الحياتية، والسيرة الحياتية كمنهج، والمنهج المعرفي لمنهجها، مُوضحة، أن فهم وتكوين واحدة أو عدد من الجزئيات الاجتماعية هو الذي يُمكِّن من فهم سيْرورة وتحوُّلات التركيبات الاجتماعية المتوسطة والكبيرة، وذلك لاعتبار أن المنطق الذي يُدير التركيبات الاجتماعية الكبيرة والمتوسطة، هو الذي يُدير أيضاً التكوينات الصغيرة في المجتمع، ويُعرف بسيْرورة إعادة إنتاجها، أو تحوُّلاتها.

كما تناولت الباحثة استخدامات منهج السيرة الحياتية، وغاياته، ومن بينها: فهم مجموعة من الأفكار والقيم الاجتماعية التي تعكسها التجارب المُعاشة التي شكَّلت الفرد في مجتمعه، ومقاربة واقع اجتماعي لجماعة اجتماعية مُعيَّنة، ودراسة فئات اجتماعية مُهمَّشة تشكِّل «أثنية ثقافية خاصة في المجتمع»، والأثنية في الاستخدام هنا، بمعنى الثقافة الفرعية، لا العصبية الأثنية. وفي المُحصَّلة، حفظ التراث الشفهي بسبب التحوُّلات المعيشية السريعة التي عملت عملها في طمس أو تهميش مساحة كبيرة من الذاكرة التي يمكن البناء عليها في مثل تلك المشروعات، بعد إخضاعها للفحص والمقارنات والمقاربات.

بدء استخدام الدراسات الأثنوغرافية

وفي تفصيل البحث، تضيء كيَّال السيرة الحياتية في الأثنوغرافيا، وبدء استخدام الدراسات الأثنوغرافية في الولايات المتحدة الأميركية، في القرن التاسع عشر بالتركيز على المجتمعات البدائية، (كان التركيز على كتابة سيَر حياة زعماء الهنود الحُمْر)، وتلمُّس الشهادات الشفهية، لتدوين تاريخ تلك المجتمعات، ومحاولة فهم ثقافاتها المنقولة. ولم يتم اعتماد السيرة الحياتية كتقنية ميدانية خاصة إلا في العام 1925، بالريادة التي حققها إدوار سابير، الذي عمل على تطوير هذا التوجُّه البحثي. مُعرِّجة على سيدني منتز، وأوسكار لويس، اللذين يعتبران من أوائل «من أعاد للسيرة الحياتية وتقنياتها ودورها كمنهج ميداني اعتباره، وكان ذلك في الستينيات من القرن العشرين».

وفي تنقُّلها بين العلوم الاجتماعية، وما يرتبط بها، تتناول كيَّال السيرة الحياتية في السوسيولوجيا، منوِّهة إلى دور كل من وليام توماس، وفلوريان زنانيسكي، باعتبارهما أول من استخدم منهج السيرة الاجتماعية في مجال علم الاجتماع، من خلال دراستهما لتأثير الهجرة البولونية في كل من أوروبا وأميركا. لافتة في الوقت نفسه، إلى ريادة هارولد غرفينكل، الذي يُعدُّ من أوائل من أسَّسوا المنهجية الأثنولوجية في ستينيات القرن الماضي، ويتركَّز اهتمامها بالدراسات الميكروسوسيولوجية، على دراسة التفاصيل الصغيرة، مع إسقاط للتحليل النظري، والاستعاضة عنه بالوصف الدقيق للمشهد الميداني مع «اهتمام كبير بتفسيره».

ومن بين التفصيلات التي تضمَّنها بحث كيَّال: السيرة الحياتية مصطلحات ومعاني، أدواتها وتقنياتها، وتتلخَّص في: اختيار المخبر، بناء العلاقة التفاعلية بين المخبر والباحث، التحضير للمقابلة، تنشيط الذاكرة، كما تناولت، أساسيات تقنية المقابلة السردية، تدوين الملاحظات خلال المقابلة، البُعد الأخلاقي للمقابلة، السيرة الحياتية: هيكلة النص، السيرة الحياتية: أساليب التحليل، بحسب جيل هول، الذي قسَّمها إلى مراحل ثلاث، وتحديداً في تاريخية كتابة السيَر الحياتية؛ إذ في المرحلة الأولى، يعتبر أثناءها أن غنى السيرة الحياتية يكمن في نشرها كما هي، مع إضافة مدخل تمهيدي إذا اقتضت الحاجة لذلك، وأن يُترك للقارئ تقييم مضمون السيرة وفهم دلالاتها الاجتماعية، وفي المرحلة الثانية، كان يعتبر خلالها أن الدلالات الاجتماعية كافة، تكمن في السيرة الحياتية، مع اعتراف بصعوبة قراءتها بالارتكاز فقط على السيرة نفسها؛ لهذا بدأ تحليل الأخيرة من خلال إبراز المؤشرات المُتجسِّدة فيها، وفي المرحلة الثالثة، تبدأ التساؤلات خلالها، في سياق تنوُّع تحليلي تحدَّى تصنيفات السيَر الحياتية ليطرح تياراً فكرياً ومنهجية في كتابة السيرة الحياتية كحالة معرفية، كما بحثت كيَّال السيرة الحياتية وقيمتها العلمية في الأبحاث الاجتماعية.

الذاكرة الشعبية في الأمثال العربية

يتناول الكاتب المصري، أنور محمد زناتي، في بحثه «الذاكرة الشعبية في أمثال الشعوب العربية»، موضوع الوراثة والبيئة في الأمثال؛ إذ يرى أن عامل الوراثة يلعب دوراً مهمَّاً في سلوك الإنسان، والعامل الأثني هو البيئة في صيغتها العامة، موضحاً أن الأمثال تلعب دوراً اجتماعياً ونفسياً مهمَّاً في ممارسات الوالدين خلال ديناميات عملية التنشئة الاجتماعية، وأنماط التربية لأبنائهم خلال مراحل نموِّهم المختلفة. كما عرَّج على تناول الأمثال للنظام الطبقي في المجتمع (العين ما تعلاش على الحاجب) و (رايح فين يا صعلوك بين الملوك).

ويضيف زناتي، بأن «خير ما يمثل الوعي الجمعي والذاكرة الشعبية، ما تعرفه جميع الثقافات والحضارات على حدٍّ سواء من اختزال الرؤية النمطية تجاه موضوعات الحياة المختلفة عبْر ما يُسمَّى بالمثل الشعبي، والذي اعتبر الخزَّان الثقافي الكبير المُعبِّر عن درجة وعي المجتمع وتخلُّفه ونظرته لمختلف أجزاء هذه الحياة ومناحيها...».

رابطاً العلاقة بين محاولة فهم وتكوين صورة عن شعب من الشعوب أو أمة من الأمم بالأمثال، باعتبارها مصدراً خصباً لفهم الشخصية القومية، ومذهبها الفطري في التفكير وفي الحياة عموماً، وعلاقة رصد الخصائص الدلالية للأمثال بخصائص الشعب الذي ذاع فيه المثل وانتشر، مستنداً في ذلك إلى توريانو الذي يرى أن الأمثال تُجسِّد فلسفة الجماهير.

كما يُفصِّل زناتي في الحالات والآليات التي يصل فيها المثل إلى صيغته التي تصلنا، بإضافة هنا، أو نقصان هناك، ولكنه في النهاية يعبِّر عن حالات تكتظ في مقدماتها بالحيلة، ويوجزها في: الكبت، باعتباره حيلة من حيل الدفاع تلجأ إليها النفس البشرية، وتتم بشكل لا شعوري لطرد الدوافع والذكريات والأفكار المؤلمة وإكراهها على التراجع (الجيعان بيحلم بسوق العيش)، وهنالك التبرير (Rationalization)، وهو من حيل التوافق لتبرير سلوك الشخصية التي لا تلقى قبولاً في المجتمع، على سبيل المثال (حجَّة البليد مسْح التخْتة)؛ أي السبُّورة، ويُقال تعبيراً عن حال تلميذ فاشل دراسياً، فيبرر لنفسه أن الأستاذ أسرعَ في مسح السبورة قبل أن يتمكَّن من نقل ما عليها من معلومات. وهنالك الإسقاط، بالتعامي عن عيوب الذات، ونسبها إلى الغير، وربما يكون أشهرها في هذا الباب «رمتْني بدائها وانسلَّت» ويقابله «عيوبي لا أراها، وعيوب الناس أجري وراها»، إضافة إلى جانب التعويض (Compensation)، في محاولة الفرد النجاح في ميدان لتعويض إخفاقه أو عجزه (الحقيقي أو المُتخيَّل) في ميدان آخر ما يشعره بالنقص، وشاهده «فقرا يمشوا مشيْ الأُمَرا»، وخامسها النكوص (Regression)، ويتبدَّى في التقهقهر إلى مستوى غير ناضج من السلوك لتحقيق نوع من الأمن والتوافق للفرد حين يتعرَّض لموقف مُحبِط، وشاهده «الشايب لما يدلَّع يبقى عامل زي الباب المخلَّع»، وسادسها حلم اليقظة، وأوردنا في بداية الاستعراض شاهداً نلحقه بآخر هنا «الأيام الزِفتْ فايدتها النوم».

الموروث الثقافي في التعليم

من جانبه، طالب رئيس قسم الفلكلور بجامعة الخرطوم، يوسف حسن مدني، في مقال له ورد في باب «تصدير»، وتحت عنوان «الثقافة الشعبية المادية في عالم متغيِّر»، بضرورة الاهتمام بما تبقَّى من موروث تقليدي، وما تبقَّى منه يظل كثيراً، في محاولة للمُواءمة بين الموروث والمعاصر من خلال: تأسيس أقسام لدراسة الموروث الثقافي على مستوى التعليم العام والجامعي وفوق الجامعي. تأسيس المتاحف التي تُوثِّق للموروث الثقافي، وتكوين فِرق عمل للجمع والتوثيق الميداني، وعقْد دورات تدريبية للعاملين في المجال، وكذلك مجال التربية والإعلام. تطوير السياحة الثقافية، وتأسيس معاهد للتدريب الحِرفي لاستيعاب الفاقد التربوي، وجميع ما تبقَّى من موروث بفعل واتساع دوائر التحديث؛ وبذا نستطيع تأسيس دار للنشر تهتم بنشر كتاب الموروث الثقافي، وما تبقَّى منه ليس بالقليل، هذا إلى جانب تأسيس مجلة مختصة محكمة في مجال الموروث الثقافي المعاصر.

وأشار مدني في مقاله إلى أن «الثقافات جميعاً تأثَّرت عميقاً بالتكنولوجيا، والتبدُّلات السياسية والحروب والهجرات، فعادات ومعتقدات الشعوب التي كانت تعيش كأسلافها - تتغيَّر الآن تغيُّراً سريعاً، تحت تأثير ما يقع في ظروف الحياة المادية من تعديلات وتغيُّرات؛ نتيجة للتأثيرات القادمة إليها من خارج حدودها».

مؤشِّرات تطوُّر (IOV)

أما رئيس التحرير علي عبدالله خليفة، فأضاء جانباً من مسيرة المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV)، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، ومؤشرات تطورُّها، والبدايات التي حفَّها الكثير من نمطية الأداء الذي تَحدَّد في الجانب الاحتفالي، إلا أنها بعد سنوات استطاعت أن تجعل لها موضع قدم في أكثر من مئة وواحد وستين بلداً، تتعدَّد أدوارها ونشاطاتها فيها، وصولاً بالأداء إلى التخصُّص في جانبه العلمي، بإثراء الساحة الدولية بالبحوث والدراسات المُعمَّقة في الموضوعات التخصُّصية.

وأشار خليفة في مفتتح المجلة إلى الدور الذي لعبته البلغارية، البروفيسور ميلا سانتوفا، بالأفق الجديد الذي فتحته لإطلاع العالم على إمكانيات وطاقات المنظمة في مجال إعداد البحوث والمذكرات العلمية ووُرش العمل الاحترافية، وخلاصة المنتديات الفكرية «عن طريق نشر الجديد من المعالجات التي تتناول مجمل الثقافة الشعبية أمام تحديات العصر»، بالقرار الذي تم اتخاذه، بإصدار مجلة المنظمة العالمية باللغة الإنجليزية.

وتذهب خلاصة مفتتح المجلة التي كتبها رئيس التحرير، إلى أن المنظمة كانت «وهي تخطِّط لإصدار هذه المجلة، تبحث عن نقطة مركزية تتوسَّط الشرق والغرب تتمُّ بها طباعة المجلة، وينطلق منها توزيعها إلى كل العالم، فجاء اختيار العاصمة البحرينية (المنامة)، مقرَّاً لطباعة وتوزيع المجلة، بتنفيذ وإشراف من مكتب المنظمة الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالبحرين».

ومن أبحاث العدد «الموروث الشعبي ودوره في إبراز الخصائص الاجتماعية والثقافية»، للكاتب الجزائري طلحة بشير، كان المدخل إليه أن الموروث الشفهي لا تكمن أهميته في سرْد القصص والحكايات من أجل الترويج والتسلية، بل تتجلَّى في عكس جوانب الحياة التي كانت تعيشها هذه المجتمعات، فهي تعبير صادق عمَّا كان سائداً لدى هذه المجتمعات من معتقدات وأفكار في جميع جوانب الحياة. ويركِّز البحث على إبراز هذا الجانب من خلال الرجوع لدراسة إحدى الأساطير عن مدينة الأغواط.

ومن المشاركين في العدد: الكاتب السوداني محمد المهدي بشرى، بـ «مسْدار البحر وموَّال الصحراء»، والكاتب اللبناني عاطف عطية بـ «لباس المرأة العربية بين التقاليد الاجتماعية والتفاعل الثقافي»، والكاتب التونسي عبدالكريم براهمي بـ «مائدة الفقراء في بر الهمامة خلال النصف الأول من القرن العشرين... جدلية الخصْب والجدْب: مقاربة أنثروبولوجية»، والكاتب المصري محمد محمود فايد بـ «القانون... دستور الآلات الموسيقية»، ومبارك عمرو العمَّاري بـ «مفهوم الأدوار اليمانية في الغناء البحريني القديم»، والكاتب التونسي فراس الطرابلسي بـ «قراءة في علاقة الظاهرة الموسيقية بمسألة السماع في تونس»، والكاتب المغربي إدريس مقبوب بـ «النسيج التقليدي المغربي... ذاكرة ثقافية بصيغة الأنثى»، والكاتب التونسي علي الثابتي بـ «العمارة التقليدية بجنوب شرق البلاد التونسية»، والكاتب المغربي جلال زين العابدين بـ «الصنائع التقليدية والحِرَف بمدينة تازة (المغرب)»، واستعرضت الكاتبة المصرية أحلام أبوزيد أنشطة ومؤتمرات عربية وعالمية تناولت التراث والتنوع الثقافي، فيما استعرض الكاتب الجزائري الطيِّب ولد العروسي، كتاب «من الحطب إلى الذهب» للأنثروبولوجي محمد الجويلي.

هيمن الكُتَّاب العرب من شمال إفريقيا، ومن بعدهم الكُتَّاب المصريون على مجمل مادة العدد، لطبيعة اهتمام تلك الدول بمراكز الأبحاث في هذا الجانب، ومنحها أهمية كبيرة؛ علاوة على الدوريات والمجلات المتخصصة في هذا الباب؛ الأمر الذي يكاد محصوراً وفي نطاق ضيِّق في دول المنطقة، علاوة على سوء خطط التوزيع.

سيدني منتز  - أوسكار لويس
سيدني منتز - أوسكار لويس

العدد 4596 - الثلثاء 07 أبريل 2015م الموافق 17 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً