العدد 4625 - الأربعاء 06 مايو 2015م الموافق 17 رجب 1436هـ

هل البشر السابقون أفضل منا؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ليفترض أحدنا أنه يعيش في العام 100 للميلاد. وخلال ساعات يومه، شاهدَ في إحدى الطرق جريمة قتل. للوهلة الأولى، فإن وسيلته لتسجيل الواقعة، هي أحد أمرين: إما أنه يشهد بما رآه أمام أحد (قاضٍ أو وجيه)، وإما أنه يكتب ما شاهده على قرطاس. وإذا ما قدَّرنا رخاوة النظم القضائية القديمة، وانحسار القرطاس إلاَّ من أصحاب السلطة، فإن الحادثة ربما تندثر، ولا يعلم أحدٌ مَنْ هو القاتل ومَنْ هو المقتول وما هي ظروف الحادثة.

هذا الأمر، يجري على غيرها من الأحداث كذلك. ربما عملية قتل فردية، أو جماعية، أو عمليات اغتصاب أو سَبْي. وهي أشياء تختلف أوزانها طبقاً لأصحابها وجغرافيتها. فإن كانت قد وقعت في قبيلة ضعيفة كبرزالة لم يلتفت إليها أحد، حتى ولو كان الدم المراق كالميزاب، وإن كانت الواقعة قد جرت في بني سليم فإن الاهتمام سيكون أكبر، كونها من القبائل المعروفة في ذلك الأوان، وأفرادها سيُعتبرون من عظام الرقبة في مضارب ما.

كذلك الحال في الموقع الجغرافي للأحداث. فحين كانت تقع أحداث في طيبة بأقصى الصعيد في مصر فإن الاهتمام بها ليس كبيراً، خصوصاً أن الشهود عليها قلة أو ربما لا يشهدها أحد حتى، بخلاف تلك التي تجري في مركز الثقل البشري كما في بلاد النهرين أو فارس أو في جنوب شبه الجزيرة العربية إنْ كان في اليمن أو شحر عُمان.

كما أن ذلك كله له ارتباط وثيق بحركة انتقال الخبر والحدث من مكان إلى آخر، فإذا كانت المسافة بين بغداد ومصر هي 570 فرسخاً (الفرسخ ثلاثة أميال) فإن انتقال الخبر سيكون صعباً في ذلك الأوان. وإذا كانت أجزاء الصين الستة قديماً يفصل كل واحد منها عن الآخر مسيرة شهر كامل، فإن معرفة الناس بما يجري في أجزائها تكاد تكون منعدمة، أو أن تأثيراتها ضعيفة، في تشكُّل الاصطفافات بسبب غياب فرصة تكوينها بسرعة.

ما أريد أن أقوله هنا، أن معايير التوثيق وظروفه اختلفت مع تقدّم العصور. هذا الاختلاف في التوثيق والتدوين له تأثير مباشر على نظرتنا للأشياء. فعلاقتنا بالزمن القديم هي علاقة «خيال» أكثر من كونها علاقة «حقيقة». بمعنى، أننا حينما نقرأ عن حادثة قديمة فإننا نتصورها بشكل مختلف وطبقاً لفروقنا الفردية، وطبقاً لتشرّبنا الوصف لها، لأننا لم نرها مُصوَّرةً لا فوتوغرافياً ولا فيلمياً.

فحين نقرأ عن تدمير سنحريب لبابل سنة 689 ق. م. فإن تصوّرنا لها هو مجرد خيال يدفعنا إلى تصوُّر ما جرى من خراب، وكيف حمل الغزاة رمادها ليخيفوا به حُكَّام دلمون، لكننا لا نتحسس الحدث، لأننا لا نملك صورةً عنه، اللهم إلاَّ بعضاً من الرسومات التي تحكي شيئاً منه، وهي أيضاً خاضعة لخيال الفنان نفسه وليس للحقيقة.

هذا الأمر يجعلنا نفكر جيداً الآن في أن ما يجري في أيامنا هو صورة أوضح لكل شيء. صورة القتل والدمار والحروب والانتهاكات، حتى اعتقد كثيرون بأن هذا الزمان هو أشد الأزمنة ظلماً وجوراً ومأساوية. نعم، قد يكون في هذا الكلام شيء من الصحة، لكن لا يعني ذلك، أن الأزمنة الغابرة كانت قليلة الجور وحوادث القتل والحرب وكل شيء قد تفرزه مشاعر البشر الشريرة. فالتاريخ سجَّل لنا غيضاً جعلنا نفغر فاهاً حوله لهوله.

قبل أيام ذكر الأمين العام لمنظمة العفو الدولية سليل شيتي في «نيويورك تايمز» إحصائيات مخيفة حول نيجيريا، سجلتها المنظمة متبوعةً بصور حيَّة وشهادات تفصيلية. يقول شيتي بأن بوكو حرام لم تختطف مئتي تلميذة من مدرسة ثانوية في بلدة شيبوك بولاية بورنو فقط بل إن المخطوفات لديها من مناطق عدة بلغن 2000 امرأة وفتاة، فضلاً عن قتلها لـ 5500 مدني منذ بداية العام 2014.

مثل هذه المشاهد قد نراها في غير مكان من العالم العربي والإسلامي. فمثلاً ارتكب المتطرفون أعمالاً شنيعة بحق المسيحيين والأكراد والأرمن في سورية، وبالأزيديين والشيعة والسُّنة في العراق، ورأينا مشاهد السَّبْي والتهجير بشكل جنوني، وكذلك في ليبيا حينما أعدِم العُمال المسيحيون على ضفاف البحر حتى اختلطت موجات البحر بدمائهم.

هذه المشاهد جرى مثلها وأكثر في أزمنةٍ غابرة، كان فيها التوثيق عاجزاً بفعل الإمكانيات القليلة، من أن يُسجِّل لنا بصورة حية ومرئية لما جرى، خصوصاً إذا ما علمنا أن وسائل القتل حينها كانت تعتمد اعتماداً أساسياً على المدية والسيف والسهم، وحرق أرض الخصم بشكل هيروشيمي، ولذات الأسباب العنصرية، إن كانت سياسية أو دينية أو طائفية أو عرقية وخلافها. لكن ما لا نعلمه هو كيف سيكون موقف الناس الأقدمين والرأي العام فيما لو أتيحت لهم فرصة التوثيق بالصوت والصورة لتلك الجرائم، وهل أن ذلك التوثيق سيُشكِّل رادعاً ذاتياً لهم، وموجة غضب ضد أصحاب الأفعال الجرمية؟

ما أريد أن أخلص إليه هو أن من أهم الأهداف المفترضة للتوثيق المرئي هو أنه يحدّ من الفعل المشين للبشر، لأنه يُسجِّل الفعل الحيواني لهم. لكن ما نشاهده اليوم مع شديد الأسف، هو أن هناك حالة من الإدمان على الصورة والاستماع إلى الآهات، جعلت من البشر عديمي الإحساس حيث يكتفون بهزة رأس لا أكثر. هذه مشكلة يجب أن توضع محل البحث النفسي والاجتماعي، إذْ لا يعقل أن تعتبر النفس البشرية الأفعال الشريرة والذئبية شيئاً عادياً، وإلاَّ دخلنا في لحظة انسلاخ كامل من الآدمية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4625 - الأربعاء 06 مايو 2015م الموافق 17 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:36 ص

      صباح الخير

      الاذهي من كل هادا يطلع لك شخص محسوب على أنه يحمل الدكتوراه في السياسه والشؤون الدوليه ويتحدث لك في البرامج التي تقدمها بعض الفضائيات العربية أن ما يحدث من دمار وقتل الأبرياء من النساء الأطفال وتدمير كل شي له علاقة بالحياة البشريه والبنية التحتية انه ليس بفعل الطائرات الحربية والعالم يشاهدها مباشرة كيف تدمر العشرات من المباني فوق رؤس قانطيها بفضل التقنيه ويصدق كذبه

    • زائر 2 | 1:03 ص

      خير دليل

      المذابح التي حصلت في الشام والعراق دليل على هيئة البشر في العصور الساب

    • زائر 1 | 10:30 م

      شمرا علي هذا التحليل و التصور

      اتمني ان يفهم هذا التصور الذي يكون غير حقيقي للذين يتحدثون عن الماضي بطريقة و كانهم كانوا حاضرين قبل اكثر من الف و أربعمائة عام ليثيروا البشر و الخلافات الطائفية. النتيجة من تصورهم الواهي ضعفنا و تبذير طاقاتنا.

اقرأ ايضاً