العدد 4630 - الإثنين 11 مايو 2015م الموافق 22 رجب 1436هـ

فن الحرب

عصمت الموسوي

كاتبة بحرينية

يقول زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة...

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هي عنها بالحديث المرجم

ويقارب المفكر فرانسو فينلون موضوع الحرب من زاوية أخرى قائلاً: «كل الحروب هي حروب أهلية لأن جميع البشر إخوة». ويقول الرئيس الأميركي باراك أوباما قبل توقيع الاتفاق النووي مع إيران: «لقد جربنا كل شيء مع إيران، وبتنا أمام خيارين، إما الحرب وإما الاتفاق، وقد اخترنا الاتفاق». أما سن تزو فيقول: «الحرب خدعة»، وعن تزو خبير الاستراتيجية العسكرية والدفاعية الصيني وعن كتابه الشهير «فن الحرب» أريد أن أتحدّث في هذا المقال.

الكتاب كتب في القرن السادس قبل الميلاد، لكنه لايزال صالحاً لزماننا رغم مئات الكتب التي صدرت بعده. والسؤال: هل تتضمن الحرب فناً؟ هل الموت والدمار والعذاب والتدمير يعد فناً؟ حسب تزو فإن قمة فن الحرب تتمثل في تجنب الحرب من الأساس، والوصول إلى التسويات من دونها، وإخضاع العدو بدون قتال، لكن إن لم يكن ثمة مفر من الحرب فيجب أن تخاض بذكاء وخدعة ومباغتة وفن، ووفق شروط أهمها أن تكون حاسمة وسريعة ومختصرة لتخفيف الآلام والخسائر البشرية، وتكبيد العدو أقل خسائر الممكنة. يقول تزو «إن استلام البلد المهزومة سالمة أفضل من تدميرها، وأسر جيش العدو أفضل من تدميره، ومنح العدو منفذاً للخروج أو الهرب وحفظ ماء وجهه أفضل من تحطيمه كاملاً لتفادي طغيانه وخطورته. وقبل الحرب يجب الإلمام التام بقوة الخصم وبالأرض والتضاريس والتوقيت والظروف المناخية والسياسية، والعمل على ضرب نقاط ضعف العدو واستراتيجياته وتمزيق جبهته الداخلية. لذا من الضروري ضمان وحدة الجبهة الداخلية والقيم الجامعة لها ومكافأة الجنود وإغراؤهم وترغيبهم، والاشتغال في الوقت ذاته على خلق الجواسيس والحرب النفسية والشائعات وحرب الإعلام في صفوف العدو. ويرى تزو أن الحرب يجب أن تسبقها ليس فقط معرفة خصمك فحسب، ولكن المعرفة التامة بقدراتك وبأهدافك وقيمك.

والإسقاطات والتطبيقات على كتاب سن تزو تكاد لا تعد ولا تحصى، ففي الثورات العربية مثلاً وجدنا أن أعداء الأمس يتحالفون مع بعضهم، وأصدقاء الماضي يختلفون ويتصارعون. حدث ذلك بين الأنظمة وبين المعارضات أيضاً. لقد نسي كل واحد منهم بسبب الهزة الشديدة التي أحدثتها الثورات أهدافه الحقيقية، أو ربما انتبه إلى أنه يحيا بلا مشروع ولا هدف، ولقد اختل التوازن القديم ونشأت أرضيات جديدة ومعادلات جديدة، أدت إلى تحالفات بين أعداء وحلفاء الأمس، ثم ترتب على ذلك صراعات جديدة أيضاً. وهنا تجدر بنا العودة إلى مقولة تسو حول الهدف الأساس، وحول مدى تطابق القيم والقواسم المشتركة بين الحلفاء، وهل الحلفاء على قلب واحد، وهل ثمة اتفاق على عدو واحد ووحدة هدف؟

تكمن قيمة كتاب «فن الحرب» في أنه أصبح اليوم ليس مرجعاً حربياً وعسكرياً وسياسياً، أو دفاعياً ودبلوماسياً فحسب، ولكن بات يستخدم على نطاق واسع في استراتيجيات التطوير الذاتي وتنمية القدرات البشرية «اعرف نفسك»، وفي الاستراتجيات الإدارية وفي العمل التنافسي التجاري والإعلامي والدعائي والتسويقي، وفي الحرب النفسية وغيره من المجالات. فنحن نخوض الحروب والصراعات كل يوم مع أنفسنا ومع الآخر، في العمل وفي البيت العائلي وفي المهنة، وتخوضه الدول والمؤسسات والشركات لتمكين ذاتها ورفع مستوى إنتاجيتها وربحيتها وتقليل خسائرها وإصلاح أخطائها ونقاط ضعفها، وجذب الاستثمارات إليها وكسب مزيد من العملاء وسط أجواء تنافسية كبيرة.

إن المرء أو المؤسسة أو الدولة لابد أن تعيش وقد وضعت لنفسها رؤية واستراتيجية ومخطط عمل لإنجاز هدف محدد وواضح، وأي إنسان أو مؤسسة أو أمة، تعيش بلا هدف محتم عليها أن تواجه الصعاب يوماً وتتهاوى عاجلاً أم آجلاً، لأنها ستكون عرضةً لكل التقلبات وكالريشة التي تتقاذفها الريح والمقادير.

أن تضع لنفسك هدفاً يتضمن سمواً ونبلاً وشمولاً وله بعد روحي وإنساني وأخلاقي يتجاوز ويعلو على البعد الذاتي والمصلحة الشخصية والنزعة العدوانية، هو أن تعيش بطاقة ايجابية عبر السيطرة على النفس وأهوائها والانتصار عليها، متناغماً مع الذات المسالمة والطبيعة الخيّرة والفطرة السوية عبر مواءمة النفس بالمبادئ والأخلاق والقيم الإنسانية.

قد يتساءل المرء: لماذا تنهزم هذه الدولة أو تتراجع وتنهار تلك الشركة أو يعجز فرد أو أمة عن تحقيق أحلامها؟ كلها نجد لها جواباً في هذا الكتاب المهم الذي تقام حول مبادئه وتطبيقاته اليوم العديد من الندوات وورش العمل. فالأمم التي هي بلا مشروع ولا تجمعها قيم واحدة، وتعجز عن مواكبة التوجهات العالمية وتخفق في إيجاد القبول وتحقيق الرضا الداخلي والتجانس والسلام بين مكوّناتها، وتفتقر إلى العتاد والمهارات وأدوات العصر الحديثة في التعليم والاقتصاد والتكنولوجيا، وفي الحكم والسياسة وإدارة الدولة، وفي تطبيق العدالة والمساواة وحكم القانون العادل... هي أممٌ منذورة للمشاكل، لا تعرف إلى أين تريد أن ترسو سفينتها لأنها بلا هدف من الأساس، وتعيش سبهللة وتُقاد ولا تقود، ويعتريها الخلل والخوف من التغيير والنقص والتخلف في كل شئون الحياة.

لقد تغيرت الحياة منذ وضع تزو كتابه وظهرت مفاهيم جديدة، وشهدنا عصراً مختلفاً يقوم على القوة الباطشة وبسط النفوذ وسحق الضعفاء وتحطيم المنافسين «أنا ومن بعدي الطوفان»، وتدمير الطبيعة وسيطرة الرأسمالية المتوحشة التي هي بلا قلب ولا رحمة ولا أخلاق ولا إنسانية. لكن حتى أعتى الرأسماليين يقرون ويعترفون بحتمية التغيير، فإن لم تتغير هذه المنظومة التي تحكم العالم فسوف ندمّر أنفسنا وندمّر معنا هذا الكوكب الذي نعيش فيه في سلسلة حروب لا تبقي ولا تذر.

إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"

العدد 4630 - الإثنين 11 مايو 2015م الموافق 22 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً