العدد 4635 - السبت 16 مايو 2015م الموافق 27 رجب 1436هـ

أداةٌ لكبْح العِصيان وردْع العناد... هي بيننا في أساليب أخرى

«جيل أمِّ الخضَر والليف... متى يثور على نفسه»؟ لسيَّار...

رسم تخيُّلي لأم الخضر والليف
رسم تخيُّلي لأم الخضر والليف

في الأدوات التي تريد كبح عصيان ولو كان طفولياً، وردع عناد يبدر هنا وهناك، استقرَّت في الذاكرة الشعبية لزمن طويل «أمِّ الخضر والليف». كلما أتى ذكرها كادت الدماء تتجمَّد في العروق. ومن رأى في نفسه الحيوية والاستغناء عن النوم، يدخل في نوم عميق ولو كان ادَّعاء. المهم أن يحيِّدها، ويجعلها بعيداً عن أسوار البيت، والبيت نفسه الذي ربما يكون عبارة عن غرفة واحدة. حتى الذين تجاوزوا الطفولة قليلاً، لم يكونوا بمنأى عن ذلك الرمز المُرعب، والذي نجح في تحقيق نتائج لزمن! هي لم تبرح الممارسة... هي بيننا حاضرة في صور وأساليب أخرى.

«أم الخضر والليف»، لا علاقة لها بالجن أو المخلوقات غير المرئية؛ أو حتى الأشباح. هي ترميز للنخلة. كانت مصدر رعب الصغار، ويتم تخويفهم بها؛ وخصوصاً ساعة يتأخر وقت النوم، وفي حال البكاء المستمر، أو الحركة الزائدة عن الحد، أو التمرُّد على أوامر تصدر من الكبار، واتخذت مصدراً للتخويف بحكم الأصوات الذي تصدر عنها حين تهبُّ الرياح، وتكون مصدر فزع وخوف الصغار.

ثمة من عمل على توظيف الأداة الكابحة تلك، في ما يُحسن من أعمال. تم توظيفها في المسرح، وفي الأغاني الشعبية، وكان للمقالات نصيب أيضاً.

في توجُّه لتأبيد حالة التدجين والخوف والفزع، والنكوص أمام المواجهة. عراة من دون أدوات حماية تضع لذلك التدجين والتخويف حدَّاً.

45 عاماً على المقال

في مجلة «صدى الأسبوع»، في عددها «العشرين»، الصادرة في العام 1970، احتوت مقالاً لرئيس تحريرها وعميد الصحافيين في يومنا، الكاتب والصحافي علي سيَّار، جاء تحت عنون «جيل أمِّ الخضر والليف... متى يثور على نفسه»؟ 45 عاماً منذ أن نشر سيَّار مقاله في المجلة المذكورة، و «جيل أمِّ الخضر والليف»، يرث الراية عن الجيل الذي سبقه، ولكن في صور وظروف ومسميات أخرى. اختفت من الذاكرة تلك الأسطورة التي كانت مثار رعب، وتولَّدت عن الواقع الذي نعيشه عشرات؛ بل مئات منها.

يبدأ سيَّار مقاله بالإشارة إلى العيد (ربما عيد الأضحى)، تطرَّق فيه إلى أنه عيدنا الألف في «سلسلة أعيادنا الحزينة، منذ ألف وأربعمئة سنة ونحن نحتفل بالعيد، وكأننا نشيِّع عزيزاً إلى قبره... نتلو الصلوات الرتيبة... نزور القبور... نتقبَّل التهاني المُغلَّفة بحرارة النفاق». هي ذاتها الأعياد الناقصة. الأعياد الشحيحة التي لا تكتمل. العيد الذي سينقطع وهو في أوله ربما. الصور مؤلمة وحادَّة تلك التي يرسمها سيَّار في مقاله. التوصيف لا مواربة أو ترميز فيه. مباشر وصادم «نتزاور فُرادى أو في مجموعات كقطعان الخراف التائهة... نرسم على شفاهنا كل علامات المسرَّة والفرح؛ بينما نحن ننزف في أعماقنا دماً وصديداً».

ثمة ما يؤلم في التعاطي مع تلك القيمة (العيد)، بالتمظهرات الفارغة، والبحث عمَّا يُجمِّلنا من الخارج، وفي الداخل تقبع كائنات القبح.

الاحتفال... الأحياء والأموات

عن الحياة التي يجب الاحتفال بها من قِبَل الأحياء، كتب سيار. عن الأموات الذين تنقطع صلتهم بالحياة ومن ثم الاحتفال بالأعياد. «الأحياء هم الذين يُقبلون على الحياة، هم الذين يفرحون لها من الأعماق، أما الأموات فقط، فهُم الذين يمارسون الخطيئة طوال أيام السنة (...)».

كل ذلك هروب من الواقع الذي لا نريد مواجهته. لأننا أسرى القشر، ولا صلابة في النفس أو الروح. الضعفاء وحدهم الذين يبحثون عن الزوايا والمخابئ.

شعوب وأمم مشدودة للمعجزات نحن. ونعجز عن الإتيان بالطبيعي والعادي في الحياة. الطبيعي مما يسيِّر تلك الحياة، ويدفعها في مسارات صحيحة ومُنتجة، والعادي منها بأن نكون على أقل تقدير: نحن، لا الآخر في صورة مشوَّهة وعاجزة ومسكونة بالترقُّب والفزع والخوف!

«نحن مبهورون بالمعجزات، تاريخنا لم يكن فيه غير مُعجزة واحدة، وهي مُعجزة لا يمكن أن تتكرَّر، تلك هي خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من صُلْب هذه الأمة، ومنذ ذلك التاريخ، ونحن مازلنا نعيش على أمجاد هذه المعجزة في استسلام غبيٍّ، نأمل من السماء أن تمدَّنا بمعجزات أخرى تنقذنا مما نحن فيه، في وقت لم يعد فيه للمعجزات مكان».

عن الأدوات التي لا نرى فيها قدرتنا على صنع الحياة، والإضافة إليها. الانشداد إلى الغيبيات هو السائد في العقل الذي لا يرى، ولا يريد أن يرى. التماس الدعاء كي يُهلك الذين صنعوا الحياة، وصنعوا لنا القشر من الأدوات التي يمكن من خلالها الانتساب إلى هذه المدنية! في حرب دائمة مع الآخرين، وإن لم نجد حرباً نخوضها، سنكون مشغولين بالحرب مع أنفسنا. الحرب في الحدود الواحدة، والشارع الواحد، والبيت الواحد.

«ونحن نحارب أعداءنا ليس بالعلم ولا بالتكنولوجيا، ولا بتقديم وجبة غذائية تحتوي على كل العناصر المفيدة لإنساننا التعس، نحن نحاربهم - وبغباء مفتون بالغيبيات والمعجزات - بالكلام من فوق المنابر، ونُرغَم على سماع (اللهم أهلك الشرك والمشركين، وأعز الإسلام والمسلمين)؛ دون أن نعي حقيقة أننا إنما نُضيِّع وقتنا هدراً فيما لا طائل وراءه، وأن الله لا يُمكن أن يُكرِّر مرة أخرى هلاك الشرك والمشركين بأن يُرسل عليهم طير الأبابيل...»!

في تشويه الوعي

في الفقرات المنشورة لمقال علي سيَّار في نهاية هذا الاستعراض والمراجعة، كلام كثير عن الخيال الطارد. الخرافة التي تدفع البشر، والأطفال منهم خصوصاً إلى الانكفاء والرعب، والاستسلام للرمز والقيمة والأثر الذي يمكن أن تُحدثه «أم الخضر والليف»، والأخطر من ذلك، العمل على تشويه الوعي، والتلاعب به. لا مساحة من «خَيَال» خلَّاق يمكن أن تُولِّده؛ بل «خَبَال» وما يترتب عليه!

في المباشر من الكلام والتناول، وتوظيف تلك الأداة الكابحة والنازعة إلى التدجين، يكتب سيَّار «وبصراحة... نحن جيل (أم الخضر والليف) و (جمَل القايلة) الذي تربَّى في حضن الأشباح، وخرافات الجدَّة، ودهاليز أسطورة حسن البصري، و (ألف ليلة وليلة)، لذلك لا نفع فينا، لا نفع فينا لأننا لا نستطيع إلا أن نكون صورة مشوَّهة لفارس شجاع اسمه عنترة، وشاعر مُبدع اسمه أبوالطيب المتنبي».

وفَّرت الحياة البسيطة وغير المُعقَّدة، قدرة لدى بشر الأزمان المتأخرة، على اختراع المصدَّات والكوابح، وكل ما يحول بينك وبين أن تكون أنت، وما تريد، لا ما يريد غيرك. ستأتي بعد زمن ليس طويلاً، السياسات والقوانين والتشريعات التي تعمل العمل نفسها، وتقوم بالدور إياه، وإن في صورة مُقنَّنة؛ لكنها تظل كوابح وموانع وحواجز ومصدَّات، وعلامات من نوعية «قف»، وغيرها من علامات ضبط السير! أليس الخيار في الحياة سيْراً هو الآخر؟ على أحدهم أن يضبطه ويحدَّ منه، وبمعنى مباشر: أن يتحكَّم فيه! يأتي اليوم الهوس واللهاث وراء قوانين «مكافحة الإرهاب»، في صورة وشكل من أشكال التلويح بـ «أم الخضر والليف»، هل نبالغ في الصورة؟! فقط التفتوا إلى مناحي الحياة من حولكم. هل هي كما هي في استقرارها والاطمئنان الذي صار مفقوداً؟!

هو نفسه سيَّار الذي حضر عنده الفقر في المقال موضوع الاستعراض والمراجعة، والحرب بالدعاء على «إسرائيل»، والأدعية الساذجة التي لا يريد أصحابها بذل أدنى جهد لتحقق ما يحلمون به ويتطلَّعون إليه. في الخيبة والعار والهزيمة مقيمون. في انتظار المعجزة أيضاً، تلك التي ستضع حداً لخيباتهم وانهزامهم، واستمرارهم عالة على العالم. تجنُّب الحقائق العلمية، تلك التي تدير شئون العالم باتخاذها قواعد للنظر والإنجاز، واللحاق بركب العالم المتحضِّر والمُنتج.

«أمُّ الخضر والليف = التفكير!

تحضر «أمُّ الخضر والليف» في مقال سيَّار أيضاً في صورة التحذير من التفكير. لا يُراد لهذه الأمة أن تفكِّر كما يجب؛ كي تعيش كما يجب. أوساط في هذا الجزء من العالم تلوِّح بالخطر الذي يمثله التفكير المغاير اليوم، والتحذير منه، وتهديد الوجود الذي يمكن أن يُطلَّ برأسه بسببه. ويحذِّر في المقال من أخطر أنواع التفكير الذي يبرز في تبنِّيه لنقد الممارسات والسلوكات والأداء ونمط الحياة الذي يُراد له أن يكون سائداً ومُهيمناً باسم الدِّين، والدِّين منه بُراء، بالأفق الذي أتاحه للعقل، ويتيحه في كل عصر. بالمودَّة والرحمة، والتفكُّر والتأمل الذي دعا إليه.

تتعدَّد صور «أمّ الخضر والليف»، ويتعدَّد توظيف تلك الأداة الكابحة لكل عصيان يُطلُّ برأسه، وردْع لأي نوع من العناد والاستقلال بالخيار والتفكير.

«وحكاية ذلك الكاتب الذي أراد أن يقول ما كان يعتقد أنه صواب في لبنان، حين أصدر كتابه (نقد الفكر الديني)، والذي مازال يُواجه عاصفة من التجريح والتكفير والإيذاء، كأنما هو اغتيال الحقيقة. هذه الحكاية هي (قمَّة) وعينا وإدراكنا لمسئوليتنا في ممارسة حق التفكير والعقيدة، وهي بعد ذلك وقبله، تمثِّل كل التراث الممسوخ الذي ورثناه في مواجهتنا وتحدينا لشخص كان يقول ما يعتقد أنه صواب».

علي سيَّار، صوت من جيل تنويري ساهم مساهمة كبيرة في تنبيه الوعي المُختطف في زمنه، هو وآخرون، وتسمية التوظيفات التي حملت صوراً وأشكالاً متعدِّدة ومُتغيرة أيضاً، بأسمائها، والفعل والنتائج المُدمِّرة التي تحققها في دنيا البشر عموماً، ودنيا العرب خصوصاً. جيل تنبَّه إلى أن «أم الخضر والليف»، واحدة من المعوقات التي حدَّت من الوعي، وصادرت الخيار!


 

فقرات من المقال «هل أصفعكم بالحقيقة؟» والعنوان بتصرُّف

 

«هل أصفعكم بالحقيقة؟ نحن لا يمكن أن نكون إلا نحن!... هل تفهمون معنى ذلك؟ إذا لم تفهموا معنى ذلك فتدبَّروا حكاية الجمل الذي سُئِل ذات يوم: لماذا لا يبول كما يبول سائر خلق الله... وبقية الحكاية معروفة.

وبصراحة... نحن جيل (أم الخضر والليف) و (جمَل القايلة) الذي تربَّى في حضن الأشباح، وخرافات الجدَّة، ودهاليز أسطورة حسن البصري، و (ألف ليلة وليلة)، لذلك لا نفع فينا، لا نفع فينا لأننا لا نستطيع إلا أن نكون صورة مشوَّهة لفارس شجاع اسمه عنترة، وشاعر مُبدع اسمه أبوالطيب المتنبي. جماهيرنا مازالت تتغذَّى من موائد التاريخ و (أمجاد يا عرب أمجاد)؛ بدل أن تتغذَّى من موائد العلم والمعرفة والتكنولوجيا؛ حيث تُصنع الحياة على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، يفكِّر الناس كيف يبنون حياتهم، كيف يطوِّعون الحقائق العلمية لخدمة أغراضهم، كيف يواجهون متاعب الحياة بعد كذا من السنين، حين يدهمهم غزو (التضخُّم) البشري الذي سينفجر في يوم من الأيام.

أما نحن هنا فما زلنا نُحارب الفقر بالدعوة إلى مزيد من الإحسان، يتفضَّل به مُوسر على كادح، ونحارب (إسرائيل) بالدعاء عليها من فوق المنابر في مساجدنا بأن (يضع كيدهم في نحرهم) وبأن يشتِّت الله شملهم، وُيفرِّق كلمتهم، وهكذا قُدِّر لنا أن ننام - ونحن نتوهَّم أننا نتحرَّك - على فيض من الأدعية الساذجة البلهاء في انتظار أن تحلَّ السماء قضايانا، وفي انتظار أن تنزل علينا مائدة من السماء تُشبع الجائع، وتكسو العريان، وتغيث الملهوف.

وحكاية ذلك الكاتب الذي أراد أن يقول ما كان يعتقد أنه صواب في لبنان، حين أصدر كتابه (نقد الفكر الديني)، والذي مازال يُواجه عاصفة من التجريح والتكفير والإيذاء، كأنما هو اغتيال الحقيقة. هذه الحكاية هي (قمَّة) وعينا وإدراكنا لمسئوليتنا في ممارسة حق التفكير والعقيدة، وهي بعد ذلك وقبله، تمثِّل كل التراث الممسوخ الذي ورثناه في مواجهتنا وتحدينا لشخص كان يقول ما يعتقد أنه صواب.

في ظل هذه المفاهيم التي تسود مجتمعنا، فقد الإنسان العربي قدرته على أن يريد أو لا يريد. أصبح في وضع المستجيب أو المتلقِّي لكل ما يصدر إليه. لم يعد فاعلاً؛ بل هو مجرد أداة تتلقَّى (الفعل) بسلبية واستسلام، وبضياع قيمة الإنسان العربي كإنسان، ضاعت كل صلته بالحياة، وأصبح واحداً من الهوامش الكثيرة التي تزخر بها الحياة ذاتها، وذلك هو قانون الحياة نفسها، إما أن تكون فاعلاً، أو لا تكون. وقد أصبح المواطن العربي بحق في مرحلة (ألاَّ يكون)، وسيظل كذلك إلى أن يستعيد قيمته كإنسان، وإلى أن يستعيد إرادته (كفاعل) لا كصدى للأفعال التي تصدر عن الآخرين.

ولكي يصل المواطن العربي لتحقيق ذاته على مستوى (أن يكون)، ينبغي عليه أن يمرَّ بتجربة عنيفة وقاسية ومريرة، وأن يُواجه في هذه المعركة ليس خصماً واحداً؛ ولكن خصوماً كثيرين؛ لعلَّ على رأسها خصمه الأكبر... الجهل! وإلى أن ينتصر إنساننا العربي على امتداد الأرض العربية... كل عام وأنتم بخير».

علي سيَّار (صورة أرشيفية) (بنا)
علي سيَّار (صورة أرشيفية) (بنا)

العدد 4635 - السبت 16 مايو 2015م الموافق 27 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:29 ص

      اي والله

      كنا نخاف
      وف الأخير اكتشفنا انهم يقصدون النخلة
      والحين عيالي ما يخافون لأن يعرفون المقصود
      جيل التكنلوجيا

اقرأ ايضاً