العدد 4636 - الأحد 17 مايو 2015م الموافق 28 رجب 1436هـ

ألَم تشبع يا بحر بعد؟!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا يمكنني أن أسأل أحداً إن كان قد جرَّبَ الغرق أم لا. فإن «كاد» أن يغرق ونجا فهذا يعني أنه لم يُجرِّب «حقيقة» الغرق كالاختناق بالماء وانقباض الحنجرة وانسداد مجرى التنفس، وخروج رغوة بيضاء، مع بروز وذمة رؤية. لذلك يستحيل السؤال هنا، لكن ما لا يستحيل هو أننا «نَصِف» الغرق كطريقة مرعبة للموت مع شرح للظروف المختلفة التي تحيطه.

مدعاة هذا الحديث اليوم، هو ما يجري من مآسي الهجرة بقوارب «عصابات التهريب» عبر البحر الأبيض المتوسط، وما تفضي إليه من حالات موت بالغرق. في العام 2014 مات 3500 إنسان خلال عمليات التهريب الآدمي إلى أوروبا. وهناك أرقام تتحدث عن 7000 آلاف ماتوا إذا ما ضُمَّت إليها أرقاء ضحايا الصحراء، الذين تيبّست حلوقهم من العطش.

كان يُقال في منظمات صحية أن الغرق هو السبب الرئيسي الثالث للوفاة عالمياً، لكن وبعد تلك الأرقام «ربما» تغيَّرت النسبة صعوداً. فمنذ يناير/ كانون الثاني ولغاية إبريل/ نيسان الماضي (4 شهور) كان يغرق أكثر من 12 إنسان يومياً في البحر المتوسط. وإذا استمرت الأعداد على ما هي عليه، فإن 4562 إنساناً سيموتون غرقاً بحلول الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل.

بحسب المفوضية العليا للاجئين في الأمم المتحدة، حملت قوارب المهاجرين حوالي 13500 شخص إلى المياه الإيطالية خلال أسبوع واحد! وفي العام 2014، عبر 170 ألف شخص إلى إيطاليا وحدها، بينما بلغ عدد من حاولوا عبور المتوسط 218 ألفاً! إنها أرقام رهيبة. لكن هناك جانب آخر من الموضوع قد يكون أكثر غرابة منه، وهو عائدات تلك التجارة السوداء. فعصابات التهريب تقبض عن كل فرد يريد الهرب عبر البحر 2400 دولار، هذا يعني أن تلك العصابات حصلت في العام الماضي على 523 مليون و200 ألف دولار!

لكن هذه النسبة قد ترتفع إلى 30 ضعفاً إذا ما علمنا تعدد نقاط الوصول ما بين خلجان وقنوات ورؤوس تقع على ضفّتي البحر المتوسط، بحيث تضطر الغالبية أن تُعدد مشوارها كلما فشلت في الخيار الأول، فتصل بالتالي مداخيل المهرّبين إلى 15 مليار و696 مليون دولار!

بالتأكيد، لا تكون تلك المبالغ ضامنة لعملية الوصول، بل هي نظير «المحاولة» لا غير. فقد يُرغم الآلاف على العودة أدراجهم بسبب تهديد المهربين لهم كي لا يقعوا في أسر قوات خفر السواحل المرابطة في المياه الإقليمية، وعليهم المحاولة من جديد وبمبالغ جديدة، بينما ابتلع البحر آلافاً آخرين. وكلا الصنفين دفعا المبلغ المطلوب لتلك العصابات مسبقاً.

قبل فترة قالت المنظمة الدولية للهجرة، أن المهرّبين في بعض الأحيان يلجأون إلى إغراق السفينة عمداً على الرغم من وجود اللاجئين على متنها عندما يحصل خلاف. وقد ذكر ناجٍ أدلى بإفادته للمنظمة بأن الذين هرّبوهم أغرقوا مركبهم بعد أن أقلهم مركب صغير آخر، وأن المهرّبين ظلوا يتابعون وهم يضحكون غرق المهاجرين وعددهم 300 راكب «حتى يتأكدوا أن المركب قد غرق بكامل ركابه» في بحر خطير وعميق لا أمل من النجاة فيه.

فمساحة البحر الأبيض المتوسط تصل إلى 2.5 مليون كيلومتر مربع، ويبلغ عمقه الأوسط 4900 قدم، بينما أعمق نقطة فيه تصل إلى 17 ألف و280 قدماً، وبالتالي فإن السباحة فيه (والتي يجهلها أصلاً أغلب المهاجرين كونهم قادمين من مناطق برية وصحراوية ولم يعتادوا ركوب البحر) متعذرة ومستحيلة في ظل ظروف البحر القاسية.

الحقيقة، أن هذا الملف معقد ومُركّب بشكل لا يمكن تخيّله. فحين صعَّدت الدول الأوروبية نشاط الدوريات زاد عدد الموتى في البحر كون العصابات تقوم برمي المهاجرين في الماء كي لا يُضبطوا بالجرم المشهود ويتم اعتقالهم. وإن سُمِحَ لهم بالدخول إلى الأراضي الأوروبية (42 ألف مهاجر غير شرعي دخلوا أوروبا بين شهري يناير وإبريل من العام الحالي حسب صحف غربية) تعزَّز دور الأحزاب اليمينية والشعبوية المعادية للهجرة، عبر تحقيقها مكاسب في الانتخابات العامة (السويد وفرنسا وبريطانيا وألمانيا مثالاً).

كما أنه حين يدخل هؤلاء إلى الأراضي الأوروبية «قد» يُورَّط عدد غير قليل منهم وعبر عصابات أخرى تترصدهم في أعمال غير قانونية، إن كان في البغاء أو تجارة تهريب المخدِّرات وتعاطيها، فضلاً عن السرقة والاشتراك في الجريمة، وبالتالي يؤثر ذلك على الأمن القومي لتلك البلدان، مع عدم وجود برامج اجتماعية أو بالأساس برامج استيعاب لهم.

أمام كل ذلك، يُطرَح السؤال الأهم عن دور السياسات الأوروبية والغربية عموماً في إنتاج مثل هذه الهجرات عبر البحر. فالسياسات الغربية الخاطئة تجاه القضية الفلسطينية هي التي أنتجت بطالة هائلة في غزة (وكذلك الضفة الغربية) ما دفع الكثير من الشباب الفلسطيني إلى التفكير بالهجرة إلى أوروبا عبر شبكات تهريب.

والسياسات الغربية الخاطئة في سورية هي التي فاقمت أزمة ملايين اللاجئين، حتى فاض الجوار بهم فلجأ الآلاف منهم إلى تلك الحيلة علّهم ينجون بأنفسهم من جوع قاتل ومستقبل مظلم. هذا الأمر يكرّره الأوروبيون في شمال إفريقيا (وبالتحديد في ليبيا التي دمّرها حلف «الناتو» في العام 2011) ووسط إفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي وأقصى الجنوب العربي.

لا أحد يعلم كيف سيتصرّف الأوروبيون، هل وفق معاهدة «دبلن» فيكونون ملزمين بهؤلاء، أم يُوسِّعوا الدائرة أكثر ويُراجعوا سياساتهم تجاه منطقتنا كي لا تفيض هذه الكتلة البشرية؟

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4636 - الأحد 17 مايو 2015م الموافق 28 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً