العدد 4651 - الإثنين 01 يونيو 2015م الموافق 14 شعبان 1436هـ

عدن الإنجليزية تتشظى في مرآة الواقع

الوسط – محرر المنوعات 

تحديث: 12 مايو 2017

ينهض العمل الروائي الرابع للكاتب أحمد زين، «ستيمر بوينت» الصادر عن دار التنوير - بيروت، على بناء سردي صارم، مرتكزا بدرجة رئيسية على تعدد أنوات السرد ومصادرها، في مساحة زمنية قصيرة، استدعت إلى لحظتها الرئيسة المغلقة، التي لا تتجاوز ليلة واحدة، سِيَر الشخصيات وأفعالها داخل الزمان والمكان، اللذان تقوم على (مبذولاتهما) التوثيقية. «ستيمر بوينت» رواية شديدة الالتباس والخطورة، بدا المتحكم الرئيس صوت الراوي الخارجي، الذي لا يتوانى أحيانا في إسقاط وعيه اللاحق على مسبوقات الأحداث، حسبما أفادت صحيفة الشرق الأوسط.

أما الثنائيات بتقاطعاتها الحادة، التي تحضر في تاريخ المدينة، فقد أرادها المؤلف أن تكون (رواية) أخرى لخصوصياتها التاريخية والثقافية، حتى عشية استقلالها أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 1967. الشاب اليمني والعجوز الفرنسي، اللذان تنهض على استرداد ذكرياتهما، وهي تأتي في هيئة تداعيات صامتة، ومسموعة أحيانا، في مساء الثامن والعشرين من نوفمبر 1967، الفكرة السردية الرئيسة، ببناها الحكائية ومستوياتها المتعددة، إذ يمثلان النواة الصلبة للعمل. فمن خلال مرآة كبيرة، تُظِهر للفرنسي وجه خادمه الشاب، الذي يقعد طرف الصالة، في قصر العجوز «العجائبي» المطل على مدينة التواهي (ستيمر بوينت) وبحرها، في ذلك المساء البعيد، منتظرًا أوامر سيده، هي في الوقت ذاته - أي المرآة - تظهر وجه العجوز الفرنسي وتعبيراته، التي يقرأها الشاب بوضوح، ويعرف ما يجول بخاطر صاحبها، تماما مثلما يعرف العجوز ما الذي يستبد بتفكير الشاب.

الثنائيات المتعارضة هذه، التي يمكن تمثيلها بـ(الشاب / العجوز - الفرنسي / العربي - الثري / الفقير)، تتحول إلى ذات واحدة، ممتلئة بحب المدينة، التي وفد كلاهما إليها من خارجها، والخشية عليها وعلى حياتهما أيضا من النزعة الانتقامية للحكام الجدد، عشية الاستقلال. العجوز جاءها شاب فقير من إحدى المدن بفرنسا، ليعمل مع تاجر من أبناء جلدته، عمل عنده أواخر القرن التاسع عشر أيضا الشاعر (آرثر رامبو)، الذي ظل العجوز يحتفظ بصورته على الجدار، مختزلا الكاتب بهذا الترسيم الشخصياتي، السيرة الأقرب لأشهر تاجر أجنبي مر على عدن، وهو (توني بس)، الذي يظهر هنا ملتبسًا بالشخصية الروائية. وهو ما حاول طرقه الكاتب في التخييل الروائي، لإعادة تقطير هذه الشخصية سرديًا بكثير من الذكاء، دون الوقوع في التباسات السيرة الفعلية إلا فيما يخدم بنية الخطاب.

أما الشاب الذي قدم إليها من الحديدة، منذ أعوام خمسة، بعد مقتل أبيه في حروب الجمهوريين والملكيين في شمال اليمن، وبإلحاح من جدته لأمه، اندمج فيها إلى الدرجة التي حاول الذوبان فيها، وتمثل حياتها المدينية، معتبرا أن حضورها المميز كمدينة حضارية في منطقة متخلفة، صار بفضل الإنجليز وفعلهم، وهو المأخذ الذي سيؤخذ عليه من قبل بعض أصدقائه الثورجيين، وعلى رأسهم نجيب الذي كان يرى في قناعات سمير حيال المدينة وأثر الإنجليز فيها نوع من الخيانة للقضية الوطنية.

آناتا الشاب والعجوز المتشظيتان، سيراهما الشاب واحدة، حين يتخيل أن العجوز يتفوه بما يريد قوله، وما ينبثق من أعماقه، كاعتراف مُر، بلحظة الانهدام الكبرى التي تتحكم بمشاعرهما المضطربة. الليلة الطويلة، التي رآها العجوز دهرًا، التي تساوت فيها عنده رائحة الكحول الراقي برائحة البارود، التي بدأت تنتشر في الأرجاء، ستنتهي باستيقاظ الشاب بعد غفوة طويلة بذهن مشوش، وجسد محطم، لم ير العجوز على الأريكة حيث كان، ولم ير المرآة أيضا، وحين هم بالمشي اصطدم بحطام المرآة، ومن شظاياها اللامعة رأى وجهه مشوها وقريبًا من القبح، فلم يجد أمامه من حل سوى ترك المكان والهروب إلى اللا شيء، حيث تساءل وهو يسمع هدير الموج في المرفأ، كم طريق تؤدي إلى عدن؟ طريق قوافل البخور في الأزمنة السحيقة، أم مسالك الغزاة منذ الرومان إلى الكابتن هينس إلى..؟

في الرواية سيظهر قاسم الذي عمل تاجر أخشاب قبل الحرب العالمية الثانية. (آيريس) الإنجليزية الفاتنة، التي جاءت إلى عدن لدراسة انعكاس المكان على الجنود والموظفين الإنجليز، فوجدت نفسها موضوعا للدراسة. نجيب الثورجي، الذي عبر بصفاء عن لحظة الاندفاع، وأراده المؤلف أن يكون التمثيل لفكرة التمرد اليساري، في تماهيها النظري مع فعل الكفاح المسلح على الأرض، لهذا كان يحضر كشخصية استعراضية تتعالى على ما حولها. سعاد الشابة العدنية، التي ظلت مشتتة بين سمير الذي يحبها، ونجيب الذي يؤثر في وعيها، كثيرا ما «فكرت أنها تعيش تحت ضغط الرقابة الداخلية للمجتمع، لكنها لم تشأ عن سابق قصد وإصرار في التحرر منها، واعتبرت ذلك ما يميزها، ويمنحها تألقها الشخصي. خاضت نقاشات حادة مع زميلاتها في الكلية حول ارتداء بنطلونات الجينز، والتعرف على شباب والجلوس معهم في البارات والمقاهي الحديثة. ومكثت طويلاً تفكر أن الجسد الذي تعيش فيه، غير قادر أن يستوعب الحياة، التي تشعر بها تصطخب في أعماقها».

عدن مدينة (كوزموبوليتية) بتعددها الثقافي والإثني، لم يعبر عنها، فقط العدني العربي واليمني، بل عبر عنها الهندي والصومالي والفارسي والإنجليزي والفرنسي، عبر عنها المسلم واليهودي والمسيحي والبوذي واللاديني بوصفهم أبناءها الطيبين، في جملة الأصوات التي تظهر مشبعة بروح المدينة، التي آثرت نخبها بعد استقلالها تقديم شططها السياسي وانقساماتها، على روح التعدد والانفتاح فيها، تماما كما عبر عن ذلك سمير في ذروة خوفه عليها، أو بمعنى أقرب السارد الخارجي، الضاغط بوعيه اللاحق على مسبوقات مدركاته، حين رأى أن حماسة الفدائيين لا تعني سوى سيطرة الريف على المدينة، وإغراقها في مستنقع صراعاتهم، لأن ما كان يحركهم أولاً هو جوع السلطة، وبفعلهم ستتحول إلى مدينة مغلقة على نفسها، وهو ذات ما تحقق على مدى سنوات لاحقة.

«ستيمر بوينت»، تجهد في البحث عن قارئ مختلف وصبور. خبرات الكتابة المستفيدة من تقنيات الصورة السينمائية، في تبدل مواقع (أنوات) السرد، وأمكنته وأزمنته المتداخلة، واحدة من السمات الواضحة في العمل، والتي تتحول أحيانا إلى عبء على قارئ قليل المعرفة بالمدينة.

 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً