العدد 4660 - الأربعاء 10 يونيو 2015م الموافق 23 شعبان 1436هـ

جسر الحب... وما أدراك ما الحب!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

وأخيراً تلقى العاشقون ضربةً مُوجِعة. فقد قرَّرت بلدية باريس أن تنزع «مئات الآلاف من الأقفال التي ربطها العشاق بجسر بون ديزارت». وبون ديزارت جسر للمشاة يعود بناؤه للقرن التاسع عشر، لكنه تحوَّل إلى «وجهة للسائحين» من العشاق، الذين يريدون أن يُخلِّدوا «حبهم من خلال ربط قفل محفور عليه الأحرف الأولى» فيربطونه في سور الجسر حسب «رويترز».
برَّرت بلدية باريس السبب بأن ربط الأقفال يزيد الحمل على الجسر الشائخ. وحسب وصف نائب رئيس البلدية برونو جويلار بأن الأقفال «تفسد جماليات الجسر وضارة للبناء ويمكن أن تسبب حوادث»، متحدثاً عن أن «جزءاً واحداً من السور على الأقل انهار بالفعل بسبب ثقل الوزن، ما يشكل خطراً محتملاً على الملاحة في نهر السين أسفله». وهو النهر الذي يشق فرنسا بطول 776 كيلومتراً ويصب في القنال الانجليزي، ويعتبر أحد أهم الطرق المائية التجارية في أوروبا.
الحقيقة، أن موضوعاً كموضوع الحب كُتِبَ عنه أكثر مما كُتِبَ عن أي شيء آخر، رغم أنها كلمة لا تزيد أجزاؤها عن حرفين. ومن المفارقة أنني وجدت ذات الاختصار لكلمة حب (حرفان أو أكثر قليلاً) في كثير من اللغات. ففي الفارسية: عشق، وفي الأوردو: محبّت، وفي الانجليزية: Loveوفي الأيرلندية grá وفي الإسبانية amor وفي البرتغالية ame وفي التركية aşk وفي الفيتنامية: yêu وهكذا.
والحقيقة أن صغر الكلمة لا يعكس ثقلها المُجهِد، فضلاً عن أنه زادها غموضاً فأصبحت أشبه باللغز. والحب في جوهره لغز وعذاب فعلاً، حتى قال النرويجيون: «في الحب لا نستطيع الاختيار». وقال الألمان: «الحب يرى الورود بلا أشواك». وقال شكسبير: «تكلم هامساً عندما تتكلم عن الحب». وقال آخرون: «الحب سلطان»، لذلك فهو فوق القانون، وقال غيرهم: «الحب هو اللعبة الوحيدة التي يشترك فيها اثنان، يكسبان فيها معاً أو يخسران معاً».
وقد أبدع العرب في مسألة الحديث والكتابة عن الحب. فقد كثرت الألفاظ المرادفة لهذه الكلمة ولكن بترتيب منظم يعكس وصفاً دقيقاً لكل واحدة منها، فحفلت بها أشعارهم وأدبياتهم، وبالتحديد في الجاهلية والعصرين الأموي والعباسي، حين كثر الغزل والغناء والطرب وخلافه.
فقالوا بأن أول مراتب الحب هو الهَوَى، ثم العلاقة وهي الحب اللازِم للقلب، ثم الكَلَف وهو شدة الحب، ثم العِشق، ثم الشَّعف وهو إحراق الحب للقلب مع لذة لم يجدها، ثم اللوعة وهي خُرقة الهوى، ثم الشَّغَف وهو حين يبلغ الحب شغاف القلب، ثم الجَوَى وهو الحب الباطن، ثم التَّيْم وهو أن يستعبده الحب، ثم التَّبْل وهو أن يسقمه الهوى، ثم التَّدْليه وهو ذهاب العقل من الهوى، ثم الهُيُوم وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهَوَى عليه كما أورد الداموني في «معجم الغرائب».
ورغم القسوة والجفاء اللذين اصطبغ بهما العرب في العلاقات الاجتماعية، إلاَّ أنَّ كتب التراث والأدب أوردت لنا العديد من الحكايا التي تُوضح ما بلغه بعض العرب من درجات الحب، حتى أصبحت الألسن تلوكها زماناً بعد زمان.
فمما جاء عن سبب موت يزيد بن عبد الملك بن مروان هو أنه كانت له «جارية اسمها حبابة، وكان يحبها حباً شديداً، فماتت فتغيَّر وبَقِي أياماً لا يظهر للناس، ثم مات بالبلقاء (أرض في دمشق) وهو ابن ثمان وثلاثين»، كما ذكر ابن الجوزي.
وجاء في العوالم أن زيداً المجنون سمع «صراخاً عالياً، ونوحاً شجياً وبكاءً عظيماً، ونساءً بكثرة منشرات الشعور مشققات الجيوب مسودات الوجوه، ورجالاً بكثرة يندبون بالويل والثبور، والناس كافة في اضطراب شديد، وإذا بجنازة محمولة على أعناق الرجال وقد نُشِرت لها الأعلام والرايات، والناس من حولها أفواجاً قد انسدت الطرق من الرجال والنساء. قال زيد: فظننت أن المتوكل قد مات، فتقدمت إلى رجل منهم وقلت له: من يكون هذا الميت؟ فقال: هذه جنازة جارية المتوكل وهي جارية سوداء حبشية وكان اسمها ريحانة، وكان يحبها حباً شديداً». ثم يضيف بأنهم «عملوا لها شأناً عظيماً ودفنوهاً في قبر جديد، وفرشوا فيه الورد والرياحين، والمسك والعنبر وبنوا عليها قبة عالية».
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يحي الوشاء أبو الطيب في الظرف والظرفاء: «حكى جعفر بن قدامة قال: كان لموسى الهادي جارية يقال لها غادر، وكانت من أحسن النساء وجهاً وغناءً، وكان يحبها حباً شديداً، فبينما هي تغنيه يوماً عرض له فكر وسهو تغيّر له لونه، فسأله من حضر عن ذلك، فقال: وقع في فكري أني أموت، وأن أخي هارون يلي الخلافة ويتزوج جاريتي هذه، فقيل له: نعيذك باللَّه، ونقدم الكل قبلك، فأمر بإحضار أخيه وعرّفه بما خطر له فأجابه بما يوجب زوال هَذَا الخاطر، فقال: لا أرضى حتى تحلف لي إني متى متُّ لم تتزوجها. فأحلفه واستوفى عليه الأيمان من الحج راجلاً، وطلاق نسائه، وعتق المماليك، وتسبيل ما يملكه، ثمّ نهض إليها فأحلفها بمثل ذلك».
وهناك العديد من حكايا الغرام التي وردتنا في كتب التراث. ومن كل تلك القصص تظهر لنا حقيقة الحب حين يعتري المرء، وفي الوقت نفسه ما يُشكله من تحفيزٍ للكُتَّاب كي يكتبوا فيه، باعتباره مشحوناً بالمشاهد الدرامية والخيال الواسع والألم. وقد اختصر الروائي الكولومبي الراحل المبدع غابرييل غارسيا ماركيز مسألة الحب في أن: «ما يُؤلمني في الموت هو ألاّ أموت حباً».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4660 - الأربعاء 10 يونيو 2015م الموافق 23 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 1:24 ص

      كنت

      كنت أسخر من الحب و لا اصدقه حتى وقعت فيه و لكن بعد ان دخلت الثلاثين و الظروف غير مناسبة مع الأسف و لا زلت أعيش على هذا الحب المجهول الذي دخل حياتي متأخرا

    • زائر 3 | 1:21 ص

      ماشاء عليك

      لقد أعطيت يا استاذ نماذج كثيرة عن الحب الرومانسي اذا جاز التعبير ولم تقدم أنموذجا واحدا عن الحب الحقيقي وهو حب الله والحب في الله. أرجوا ان تكتب مرة ثانية عن ما ذكرت واعتبره كفارة عن ذنب.
      البلادي

    • زائر 2 | 12:37 ص

      من أبيات الحب الدينية العجيبة

      أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهت ** ْرَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني

    • زائر 1 | 9:06 م

      وهل

      وهل الدين إلا الحب ؟

اقرأ ايضاً