العدد -1 - الخميس 27 يونيو 2002م الموافق 16 ربيع الثاني 1423هـ

كيف خلع السلطان عبد الحميد؟

بداية نهاية السلطة العثمانية

شكيب ارسلان comments [at] alwasatnews.com

.

... وفي زمن السلطان عبد الحميد ساءت الاحوال في مكدونية لان السلطان كان اكثر همه في المحافظة على شخصه. وكان شديد التخيل الى درجة الوسواس. فاستكثر من الجواسيس وصار بأيديهم تقريبا الحل والعقد، وليس من الصحيح ان السلطان كان يعمل بموجب تقاريرهم كما هو شائع، بل كان يرمي اكثرها ولا يصدق ما فيها، ولكن اهتمامه بقضية اخبار الجواسيس القى الخوف في قلوب الرعية وصارت في قلق دائم وأصبحت الناس تبالغ في الروايات عن الجواسيس فساءت سمعة الحكومة، وسخط الرأي العام على هذه الحالة، وبرغم ما كان السلطان يعفو ويصفح ويجود ويمنح، كانت سمعته بعكس ما كان يفعل، وذلك بسبب كثرة الجواسيس وحصولهم على الحظوة عنده، فصار الناس يعللون جميع خطوب المملكة بسوء الادارة ويعللون سوء الادارة بانتشار الجواسيس وفقد الحرية. وهذا وان كان صحيحا الى حد محدود، فليس بصحيح على اقلاقه، لان خطوب المملكة كانت لها اسباب داخلية وخارجية، لا تذكر قضية الجواسيس في جوانبها شيئا. فأما العوامل الداخلية فهي انحطاط درجة التعليم عما يجب ان تكون، واستيلاء الجهل، وانقسام سكان المملكة الى اقوام شتى كل منها له هدف غير هدف الآخر، ومنها ما هو عدو عامل لا يرضيه الا زوال الدولة العثمانية. ثم ما وغر في صدور الناس اجمعين من قرب اجل هذه الدولة فصارت اشبه بالمريض الذي انقطع الامل من شفائه. فأما العوامل الخارجية فهي مطامع الدول الاوروبية في اجزاء هذه السلطنة كل دولة منهن تحب ان ترث شقصا من هذه التركة، فهي تدس الدسائس في البلاد التي هي مطمح نظرها حتى تتوصل منها الى مأربها (...).

ولما كانت الجمعيات الارمنية بطبيعة الحالة تميل الى اسقاط السلطان عبد الحميد مدت ايديها الى هؤلاء الاتراك الذين كانوا قد هجروا اوطانهم الى اوروبا، وشرعوا في التحريك لاجل اعلان الحكم الشوري في تركيا. وكان بعض المسيحيين من سورية مشتركين ايضا في هذه الحركة، وكل فئة من هذه الفئات كانت لها اغراض غير اغراض الاخرى في الحقيقة، ولكنها كانت تجتمع في نقطة واحدة وهي مقاومة السلطان، والعمل لاسقاطه. واخيرا انتدب بعض شبان الاتراك والفوا جمعية سرية في سلانيك، وسموها «جمعية الاتحاد والترقي» وأخذوا يجتذبون الى جمعيتهم كل الوطنيين المخلصين الذين قدروا على اجتذابهم برغم شدة المراقبة، حتى ان بعض المستخدمين في الحكومة انضموا الى هذه الجمعية، وكانوا يجتمعون في المحافل الماسونية حتى يتقوا الشبهة فيهم. وكان معظم اجتهاد هذه الجمعية السرية متوجها الى استجلاب الجيش حتى تصير في ايديهم القوة اللازمة لخلع السلطان، وتوفقت هذه الجمعية الى استجلاب عدد كبير من الضباط، ولما كان عصائب البلغار واليونان يعملون بدون انقطاع في بلاد الرومللي، وكانت الدولة تسوق عليهم العساكر لاجل تطهير الرومللي منهم، وكانوا يعملون في جوار سلانيك، تسنى لرجال الاتحاد والترقي ان يتصلوا بضباط الجيش، وان يقنعوهم بأن هذه العصائب البلغارية واليونانية انما تشاغب وتعثو في الارض لاجل الحصول على ادارة حسنة يستريح في ظلها السكان، وهذه الادارة غير ممكنة ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطة، فأما اذا امكن خلعه، وجعل الحكم دستوريا شوريا كما هو في سائر الممالك المتمدنة، فان جميع هذه المشاغبات تنتهي من نفسها، وتخلد جميع الاقوام الى السكينة وهكذا تنجو السلطنة العثمانية من خطر السقوط المحدق بها.

فشرب اكثر الضباط هذه المبادئ التي ليس بعجب ان تقبلها عقولهم، لان المسيحيين من اروام، وبلغار، وسربيين كانوا يدعون انهم لا يلجأون الى الثورة الا من سوء الادارة، وانه اذا اصطلحت الادارة فهذه تكون غاية امانيهم ويدخلون في الطاعة.

ولم يكن هذا الادعاء صحيحا بل حقيقة الحال انه سواء اصطلحت الادارة العثمانية ام لم تصطلح فالبلغار انما يجتهدون في ضم البلاد المأهولة بالبلغار الى مملكتهم، واليونان انما يسعون في ضم البلاد التي اكثرها منهم الى مملكتهم، ولن يرضوا بالبقاء تحت حكم الاتراك ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً (...).

والخلاصة ان السلطان عبد الحميد اعلن القانون الاساسي وأمر بانتخاب المبعوثين، وتعين كوجك سعيد باشا رئيسا للوزارة الجديدة. فأراد سعيد باشا اعطاء السلطان بعض حقوق في تعيين الوزراء خلافا للقانون الاساسي، فوقع بسبب ذلك خلاف بين الوزراء ادى الى استعفاء الوزارة، فانتدب السلطان للصدارة كامل باشا وتألفت وزارة جديدة فيها رجال اماثل مثل رجب باشا الارناؤوطي ناظر الحربية، وحسن فهمي باشا ناظر العدلية، وغيرهما. ولكن وزارة كامل باشا هذه شاهدت حوادث ذات بال، مثل اعلان بلغاريا استقلالها التام، ومثل ان دولة النمسا أعلنت استلحاق ولايتي البوسنة والهرسك، ومثل ان الاروام اعلنوا الحاق جزيرة كريت باليونان، وكان اعلان البلغار لاستقلالهم بموجب كتاب من اميرهم فرديناند الى السلطان عبد الحميد في 5 تشرين الاول سنة 1908، فأرسلت الدولة جوابا للحكومة البلغارية بأنها لا تستطيع الاعتراف بعمل مخالف لمعاهدة برلين، وكتبت الى الدول تدعوها الى عقد مؤتمر لاجل النظر في ما اقدمت عليه بلغاريا من خرق هذه المعاهدة، وكذلك احتجت الدولة على استلحاق النمسا والمجر للبوسنة والهرسك برغم كون النمسا والمجر اجتهدتا في استعطاف الدولة العثمانية، وعرضتا عليها تعويضات مالية وردتا لها «سنجق نوفيبازار» من اصل البوسنة (...).

ولكن جمعية الاتحاد والترقي مع حسن نية رجالها كان ينقصها كثير من الخبرة وكان اكثر زعمائها شبانا لم يتمرسوا بالامور، ولم تنجزهم الحادثات، وقد جاء فوزهم بالقبض علي ناصية السلطنة غير منتظر - حتى من انفسهم - فسكروا بخمرة العز، واستخفوا بمن سواهم، وظنوا انهم هم قادرون على كل شيئ، والحال انهم كانوا يواجهون صعابا ويقابلون عقابا لا قبل لهم بها، فكانت امامهم - وهي الطامة الكبرى - دسائس الدول الاوروبية التي كل واحدة منهن كانت تحرك اهل البلاد التي تطمح اليها من اجزاء السلطنة، وكان هذا مرضا مزمنا، فلا الاجانب كانوا راجعين عن اطماعهم هذه ولا الاهالي الذين تعودوا رؤية نفوذ هذه الدول في بلادهم كانوا عادلين عن الانقياد الى وساوسهم، ولاجل وضع سد في وجه الاجانب كان ينبغي ان تكون الدولة اقوى وارقى واسعد حالا، واغزر مالا من جميع الدول العظام. ولم تكن هذه الشروط حاصلة في الدولة العثمانية كما لا يخفى. ثم ان جميع الامم التي كانت تتألف منها هذه السلطنة كانت اهدافها مختلفة، فالاروام وهم جانب كبير في المملكة لا ينسون ملكهم القديم، وفي كل حركاتهم وسكناتهم كان هدفهم الوحيد استئناف الاستيلاء على القسطنطينية وطرد الترك منها الى آسيا، والارمن كان هدفهم الوحيد استئناف ملكهم القديم في نفس الاناضول، والبلغار يريدون ضم مكدونية الى المملكة البلغارية الجديدة، وهذا من جهة المسيحيين.

فأما من جهة المسلمين فان الجامعة الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والارناؤوط والجركس هي الجامعة الدينية، ولولاها لكانت هذه السلطنة تفككت منذ قرون، ولكن سوء الادارة في الداخل من جهة، ودسائس الاجانب من الخارج من جهة اخرى، حملا الكثيرين من العرب والأرناؤوط بنوع خاص على النزوع الى الانفصال عن الدولة برغم الجامعة الدينية، وقد بدأ ذلك عند الارناؤوط قبل العرب، فحاولت الدولة تأديب الثائرين منهم فاستلزم ذلك تجريد جحافل ووقعت معارك دموية، فازداد الارناؤوط من الدولة نفوراً. واما العرب فكانت عندهم غيرة من الترك لانهم كانوا اكثر من هؤلاء عددا، ولم تكن لهم الامتيازات التي للترك، وكان الترك يزعمون ان العرب غير قائمين بما يجب عليهم تجاه السلطنة حتى يتمتعوا بالمساواة التامة مع الاتراك، فمن البلاد العربية جانب كبير لا يقوم بالخدمة العسكرية الاجبارية، بل يكلف الدولة سوق عساكر لادخال اهله في الطاعة، وهذا النزاع بين العرب والترك لم يكن ينتهى بل كان يزداد بضعف الدولة وقد كان يظهر في مواقع كثيرة. ولكن كان المانع الوحيد من انفجار بركان الشر بين الفريقين هو الخوف على بيضة الاسلام لاغير، الا ان الانكليز تمكنوا قبل الحرب العامة من استجلاب كثير من ناشئة العرب، منهم من استجلبوهم بالمنافع الخاصة، ومنهم من استجلبوهم بطريقة الاقناع، واوهموا العرب انهم انما يريدون ليجددوا دولة عربية كدولة بني العباس، او دولة بني امية مثلا، ويساعدوا العرب على تجديد مجدهم القديم، وعلى عمارة بلادهم التي لم يحسن الترك ادارتها، ولا عمارتها. فصار بين العرب حزب غير قليل ينزعون الى الانفصال عن الدولة قلبا وقالبا متوقعين لذلك اول فرصة. ولا يمكن ان يقال ان هذا كان رأي الجمهرة من الامة العربية، بل في الحقيقة كان عقلاء العرب يفقهون انه اذا وقع الانفصال بين العرب والترك تسقط بلاد العرب تحت حكم الافرنج، فلذلك كانوا يختارون البقاء تحت حكم الدولة الثعمانية خوفا من حكم الاجانب، واختياراً لأهون الشرين(...). ولما كان الاتحاديون يتظاهرون بالتفرنج ويتساهلون بامور الدين، ويتكلمون احيانا بما يخالف الشرع، مال جمهور العلماء وانصار المبادئ الاسلامية الى هذا الحزب الذي شرع بمصادمة جمعية الإتحاد والترقي، وألفوا تحت رئاسة الشيخ «درويش وحدتي» عصبة سموها «الوحدة المحمدية»، واخذ حزب الاحرار يمد يده الى حزب الرجعيين ليكونا يدا واحدة على حزب الاتحاد والترقي، فاشتدت المعارضة في وجه الاتحاديين بينما هم مهملون للاحتياط، واثقون بأنفسهم، مستخفون بخصومهم. فاشتدت المناقشات في الجرائد، وازدادت العدواة بين الاحزاب، واذا بالناس في 8 نيسان سنة 1909 تسمع ان حسن فهمي بك محرر جريدة «سربستي» قد قتل غيلة على الجسر وهو راجع من بيك أوغلي الى استانبول، وكان هذا الكاتب من اكبر اعدء الاتحاد والترقي، فقيل ان الاتحاديين هم الذين ارسلوا من يغتاله، وقيل ان الذين اغتالوه هم حزب الرجعيين، وذلك لانهم استشاروه في القضاء على الدستور والرجوع الى نظام الحكم القديم فأبى ان يسايرهم في هذه المكيدة، فخافوا ان يفشي سرهم للحكومة فأرادوا التخلص منه فقتلوه، فهاجت الخواطر لقتل هذا الكاتب، وقدم ستة من مبعوثي المجلس سؤالا لناظر الداخلية عن هذه الحادثة، وتفاقم القلق في الاستانة، وكان الرجعيون قد اتصلوا ببعض طوابير من الجيش، واتهم السلطان عبد الحميد بأن له يدا في الدسيسة رأسا او بواسطة انصاره القدماء، فما شعر الاهالي الا والعساكر قد ملأت ساحة ايا صوفيا واخذوا ينادون باسقاط الوزراء، وعزل احمد رضا بك رئيس مجلس الامة، ويطلبون تسليم علي رضا باشا ناظر الحربية، واعضاء جمعية الاتحاد والترقي ليقتلوهم، وكان بعض المشايخ علموا العسكر ان ينادوا باعادة الشريعة والغاء القانون الاساسي حتى يملكوا بذلك قلوب العامة، وفي ذلك الوقت هجموا على نادي الاتحاد والترقي، وعلى ادارة جريدة «طنين»، وعلى النادي العسكري، وعلى نادي النساء، ونهبوها وجعلوا اعاليها سافلها، ثم انقض الجنود على ضباطهم فقتلوا منهم ثلاثمائة، وفر من الضباط عدد كبير من الاستانة، وتخبأ اخرون فيها. ثم هجم الجند على مجلس المبعوثين ليقتلوا منهم الاتحاديين المعروفين بمكاتبهم في الجمعية، ولكن كان المبعوثون الاتحاديون قد علموا بالثورة وما يضمره الرجعيون المتسترون باسم الشريعة من نية قتلهم، فلم يحضروا الى المجلس (...).

وقتلوا ناظم باشا ناظر العدلية، وكان مرادهم ان يفتكوا ايضا بسائر اعضاء المجلس الذين لبثوا ينتظرون الموت مدة ساعتين، ومنهم من رمى بنفسه من النوافذ فسقطوا وتكسرت ارجلهم، ومنهم من تخبأ في اي مكان يتوارى به عن الاعين، ولكن العسكر بعد ان فتك بناظر العدلية وبمبعوث اللاذقية سمعوا انه سيأتي عسكر آخر بأمر السلطان فيقتص منهم، فوقع الرعب في قلوبهم وامسكوا عن قتل سائر المبعوثين وصاروا يطلقون الرصاص في الفضاء تهويلا(...).

ولما وصل الخبر الى سلانيك، وهي مركز الاتحاد والترقي، هاج العسكر ولا سيما الضباط الذين علموا بقتل رفاقهم، فلم يبطئوا ان زحفوا الى الاستانة. فاجتمع الفيلق الثالث - اي فيلق سلانيك - والفيلق الثاني - اي فيلق ادرنة - وساروا الى العاصمة تحت قيادة محمود شوكت باشا، فوقع الرعب في الأستانة وخيف ان العساكر الآتية من ادرنة وسلانيك تنتقم من العساكر والاهالي الذين قاموا بالثورة الرجعية، فأرسل الصدر الاعظم الى محمود شوكت باشا يقول له: ان السكون تام في الاستانة وانه لا خوف من حرب. وكان توفيق باشا قد نصح للسلطان بعدم المقاومة خوفا من حرب اهلية.

ولما اجتمعت الجيوش في «سان ستفانو» وذلك في 21 نيسان اقبل عليها النواب والشيوخ وانعقد مجلس الامة تحت رئاسة احمد رضا بك، ونشروا منشورا يجعل الامر والنهي والاقتصاص من الثائرين في يد محمود شوكت باشا قائد الجيش المسمى بجيش الحركة، وكان العساكر البحرية قد اشتركوا في الثورة من قبل، ولكنهم لما رأوا القوة اقبلت اسرعوا الى الخضوع. وبالاجمال لم يكن في نية توفيق باشا ولا أدهم باشا ولا احد من الوزارة الجديدة مقاومة الفيلقين القادمين من الرومللي، ولكن بعض العساكر الذين كانوا في ثكنة «طاشقشلة» والذين كانوا هم الثائرين والفاجرين للدماء، اطلقوا النار على جيوش الرومللي فوقعت مناوشات خفيفة في ثكن اخرى وانتهت بفوز قوة محمود شوكت باشا، وكان يحيط بقصر يلدز سبعة آلاف من الجيش المخلص للسلطان، الا انهم لم يروا السلطان ناويا المقاومة فخضعوا لمحمود شوكت باشا . وفي 26 نيسان تقرر في مجلس الامة خلع السلطان. وصدرت الفتوى من مشيخة الاسلام بأنه اذا كان زيد - الذي هو امير المؤمنين - يحذف مسائل مهمة من كتب الشرع وقد يمنع تداول هذه الكتب احيانا، وكان يخالف الشرع في استعمال بيت مال المسلمين ويقتل وينفي ويحبس بمجرد هواه، ويحنث بيمينه التي اقسمها، ويحدث الفوضى في المملكة، افلا يجوز تخليص الامة من ضرره؟ افلا يكون من مصلحة الامة خلعه الخ؟ الجواب: نعم.

وقرروا نفيه الى سلانيك حيث بقى الى ايام الحرب البلقانية سنة 1912، ولما نشبت الحرب البلقانية نقلوه الى الاستانة حيث توفي سنة 1917. (...).

من كتاب (امير البيان) شكيب ارسلان.

(سيرة ذاتية) دار الطليعة، بيروت، 1969

العدد -1 - الخميس 27 يونيو 2002م الموافق 16 ربيع الثاني 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً