شرعت الحكومة اللبنانيةفي 8 سبتمبر/ أيلول 2002 في بناء ورشة عند نبع مياه الوزاني الواقع في أراضيها بغية الاستفادة من مياهه في غضون ثلاثة أسابيع. وقد ردت «اسرائيل» بإرسال بوارج حربية إسرائيلية مقابل الساحل الممتد بين الزهراني وصيدا، وخرقت سيادته براً وجواً ليلاً ونهاراً، وأعلنت حالة الاستنفار القصوى على طول الحدود الجنوبية مع لبنان والشاطئ ما بين صيدا والناقورة، وسيرت دوريات مؤللة على مدار الساعة، وأطلقت قنابل مضيئة ليلاً، وهددت بعدوان على البنى التحتية، وتحديداً المحيطة بنبع الوزاني.
تصريح «إسرائيلي» يأمر بوقف استفادة لبنان من مياه الوزاني، ورئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري يؤكد حق لبنان في الافادة من ثرواته الطبيعية، قائلا: «لبنان سيمضي في استثمار ثرواته، لا سيما مياه الوزاني والحاصباني، والتهديدات والإنذارات الإسرائيلية لن تثنيه عن متابعة إقامة المشروعات المائية للقرى العطشى في اقضية مرجعيون وحاصبيا، وان عملية إعادة اعمار المناطق المحررة (مايو/ ايار 2000) في الجنوب والبقاع الغربي وحاصبيا ستستمر مهما تكن الظروف».
يقول المشرف على مشروع جر مياه الوزاني اللبناني علي وهبي، وتنفذه شركة «ورد» إن: «من المقرر الاستفادة من مياه الوزاني فور تركيب المضخات وفق التوقيت المقرر ما بين 20 و25 من الشهر الجاري، وستعقب ذلك بعد شهرين خطوات تستهدف إمداد قرى منطقة جبل عامل بالمياه».
حقائق تاريخية:
أكدت الصهيونية مطامعها قبل وعد بلفور (2/11/1917) في كل منابع المياه العربية، ووضعت مخططات لمنابع نهر الأردن ونهر الليطاني وثلوج جبل الشيخ واليرموك وروافده، وغيرها. وتمكنت من تحقيق مطامعها بمساندة متصلة من بريطانيا وأميركا في عهد الرئيس «ويلسن»، ومستشاره الأول المساند للصهيونية «برانديل».
وفي حديث إلى وكالة فرني بريس (20 يونيو/ حزيران 2000) قال أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية عصام خليفة: «إن ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين العام 1923 الذي عرف بـ «اتفاق بوليه نيو كامب» جعل الحدود بعيدة نحو ثلاثة كيلومترات عن نبع الوزاني شرقا، وبعد اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل، قام فريقان أحدهما لبناني والآخر إسرائيلي بإعادة إحياء ترسيم في العام 1923 بإشراف الأمم المتحدة واتفقا على الترسيم النهائي في 12 ديسمبر/ كانون الأول العام 1949 الذي يؤكد أن الحدود بعيدة عن نبع الوزاني نحو ثلاثة كيلومترات. أما قرية الغجر مع قرية المخيلة المجاورة لها مع مزارع شبعا فتقع داخل الحدود اللبنانية بحسب الترسيم الحدودي الرسمي، أما الحدود بين لبنان وسورية في هذه المنطقة فيجب أن تكون على بعد 2800 متر شرق نهر الحاصباني، وان العلامة الحدودية رقم 39 بحسب الترسيم الرسمي والتي تعتبر نقطة التقاء الحدود بين لبنان وفلسطين وسورية، فتقع على بعد نحو 300 متر غرب بانياس السورية، وهذا يعني أن الغجر والمخيلة مع مزارع شبعا التي تقع اكثر شمالا، هي داخل الحدود اللبنانية. وقد سبق لسورية أن نشرت قواتها الأمنية في الغجر والمخيلة ومزارع شبعا خلال الستينات، فقامت إسرائيل باحتلالها العام 1967 مع هضبة الجولان». وبعد انسحاب «إسرائيل» من لبنان واصلت تركيز مضخاتها على نبع الوزاني (يونيو 2000) واستمرت في ضخ مياهه إلى ما وراء الحدود، باتجاه قرية الغجر التي تحتلها منذ العام 1967.
مياه الوزاني
يلتقي نهر الحاصباني نهر الوزاني، ويواصل الأخير سيره باتجاه فلسطين المحتلة بعد عبور حوالي عشرة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية. أما نبع الوزاني فيقع على بعد عشرات الأمتار من السياج الفاصل بين لبنان وبين قرية الغجر، وعلى بعد نحو 20 كيلومتراً جنوب بلدة مرجعيون. وهناك مضخة كبيرة مرتبطة بأسلاك كهربائية آتية من الجهة الإسرائيلية من الحدود ويخرج منها أنبوبان، قطر الواحد منهما عشر بوصات، ويتجهان مباشرة عبر السياج الحدودي الشائك إلى بركة تتجمع فيها المياه قبل نقلها بأنبوب آخر باتجاه قرية الغجر، الواقعة على مرتفع فوق النبع. وأقام الإسرائيليون مركز حراسة يشرف على النبع ويبعد عنه قرابة 40 مترا.
الأمن المائي السوري
سورية ولبنان توأمان في المياه، ونهر بردى الذي كان يروي دمشق وغوطتها منذ آلاف السنين اصبح حزينا. بردى اليوم جف تماما، وعاد نصف الشمال السوري الزراعي حزيناً... يشكو من التقنين الشديد للماء، وتراجعت الزراعة تراجعا كبيرا تجاوز ثلث معدلات الإنتاج قبل ربع قرن بحسب إحصاءات «المجموعات الإحصائية الرسمية»، أما المساحة المروية من الأراضي الزراعية فتعتمد على رحمة مطر السماء.
المياه أهم مدخلات القطاع الزراعي، ويشير التقرير الاقتصادي العربي الموحد الصادر عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وصندوق النقد العربي، ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، إلى أن القيمة المضافة لقطاع الزراعة السوري بلغت 1288 مليون دولار أميركي في العام 2000، وهو بذلك يسهم بحوالي 25,6٪ من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 18770 مليون دولار في العام نفسه. أما القطاع الزراعي اللبناني فقد اسهم بحوالي 8٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2000، إذ بلغت قيمته المضافة 1288 مليون دولار، مقارنة مع حوالي 16491 مليون دولار للناتج الإجمالي.
يلاحظ أن مياه الوزاني تعتبر من اغزر الينابيع اللبنانية بعد نهر العاصي، وأقصرها مسافة، إذ يجري داخل الأراضي اللبنانية نحو خمسة كيلومترات، قبل أن يخترق الأرض المحتلة عند جسر الغجر، ويشكل مجراه خط الحدود بين لبنان والجولان السوري المحتل، وتبلغ حصة لبنان منه خمسين مليون متر مكعب، لم يستغل منها حتى الآن سوى سبعة ملايين متر مكعب سنويا فقط، بينما تسرق «إسرائيل» منه حوالي 200 مليون متر مكعب سنوياً.
المياه فتيل نار
منذ بداية المفاوضات مع «الكيان الصهيوني» كانت المياه إحدى القضايا الرئيسية الساخنة أمام أي تسوية في الشرق الأوسط، ففي العام 1986 قصفت «إسرائيل» اساسات سد الوحدة السوري الأردني للحيلولة دون استفادة العرب من المياه العربية. في اوسلو، أصرت «إسرائيل» على إبقاء موضوع المياه معلقا. أما اليوم، فتحاول «إسرائيل» وإدارة بوش الشروع في فرض الاملاءات.
وما ورد في برنامج موسوعة القدس (تحكي تاريخ القدس من العام 4000 قبل الميلاد حتى العام 2000، شركة سفير) «تعتبر مصادر المياه العربية من أهم الموارد الطبيعية التي من أجلها تصر «إسرائيل» على الاحتفاظ بالأراضي العربية، ولذلك قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967 بوضع يدها على ما يتصل باستغلال موارد المياه وتوزيعها وإدارتها، وبناء على ذلك، أصبحت موارد المياه السطحية والجوفية كافة تحت سيطرة الحاكم العسكري الإسرائيلي، الذي يتصرف فيها وفق الأهداف الإسرائيلية».
وشكلت المياه أخطر عقبة أمام التنمية الاقتصادية الاجتماعية الفلسطينية، وما انفكت المخططات الإسرائيلية تستهدف ضرب البنى التحتية الفلسطينية، عبر تجريف الأراضي الزراعية واقتلاع الأشجار المثمرة، وبالفعل تم تجريف أكثر من 220 ألف دونم من المزروعات في العام 2001، واقتلاع أكثر من نصف مليون شجرة مثمرة من الحمضيات والنخيل والزيتون، وتدمير آبار المياه واستنزافها عن طريق المستعمرات.
وتشير الإحصاءات الإسرائيلية إلى أن عدد السكان في «إسرائيل» العام 1994 بلغ حوالي 5,1 ملايين نسمة، ومن المفترض (في ظل تزايد عدد السكان الملحوظ عما كان عليه في السنوات السابقة عبر التهجير المستمر) أن يكون دائم البحث عن موارد مائية جديدة، وهو ما يعني إمكان اللجوء إلى العمليات الحربية للسيطرة على بعض منابع المياه في المنطقة كما حدث سابقاً. ومن هنا ينظر الإسرائيليون إلى مياه الضفة الغربية كذلك بوصفها مصدر أمن قومي لا يجوز التنازل عنها، واستمرت «إسرائيل»، في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية السابقة، في التمسك بالسيطرة على المياه.
وبدلاً من تخلي «إسرائيل» عن المياه في مناطق الحكم الذاتي فإنها مازالت تصر على ضرورة البحث عن مصادر جديدة خارجية لتزويد الضفة والقطاع، مشيرة بذلك إلى أن حقوق المياه في هذه المناطق إنما أصبحت إسرائيلية بحكم الاحتلال والأمر الواقع. ويؤكد رئيس لجنة المياه عن الجانب الإسرائيلي في المفاوضات المتعددة الأطراف كاتس عوز: «إن مياه الضفة الغربية كانت وستبقى إسرائيلية حتى بعد إقامة الحكم الذاتي».
إن حدة أزمة المياه في الأرض المحتلة ليس لها مثيل، ففي الفترة الأخيرة، وبعد أن قصفت قوات الإرهاب بنية شبكة توزيع المياه، لم يجد أهالينا في الأرض المحتلة سوى مياه الصرف الصحي باعتبارها البديل الوحيد المتاح للشرب، مما تسبب في وفاة الكثير بسبب تفشي الأمراض، بينما اقتلعت آلاف أشجار الزيتون المثمرة، ولم تسلم حتى الحيوانات، إذ نفقت الأبقار والأغنام والطيور والحيوانات الداجنة في إطار مخطط إرهابي استهدف تدمير الإنسان وبنيته التحتية.
نفهم كيف أن اهتمام «إسرائيل» بلجنة المياه يفوق اهتمامها بباقي اللجان المنبثقة عن مؤتمر مدريد، حيث أن القدرة على استيعاب المهاجرين، وزيادة الإنتاج والتصدير الإسرائيليين، وغزو الأسواق يرتبط بتوافر المياه، أما حجب المياه عن الفلسطينيين فسيضمن القضاء على البنية الزراعية للاقتصاد الفلسطيني. يذكر أن «إسرائيل» تحرص على عدم الحديث عن إنجازاتها في مجال تكنولوجيات تحلية مياه البحر، وكتبت عنها وكالة الأنباء الفرنسية، ووكالة «آنسا» الإيطالية. فلدى «إسرائيل» مخطط لتنفيذ مشروع محطة تحلية تقوم بمقتضاها بتحلية 50 مليون متر مكعب من المياه سنويا بالقرب من رفح بتكلفة عدة مليارات من الدولارات، وبتمويل تشترك فيه أميركا. ووراء المشروع مشروع ضخم بإقامة أربع محطات لتحلية مياه البحر بتكنولوجيا إسرائيلية مبتكرة. ومن المقرر استكمال المشروع في مدة لا تتجاوز عشرة أعوام حتى يكون بوسعه تحلية كمية كافية من مياه البحر لتلبية احتياجات منطقة لا تقتصر على «إسرائيل» وحدها، وإنما تتسع للأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية والأردن، في وقت سيكون شح المياه العذبة فيه قد بلغ حدا حرجا ينذر بنشوب حروب مياه.
من جهة أخرى، تسعى «إسرائيل» إلى فتح جبهات أوسع نطاقا، فهي تدرك أن 70٪ من الموارد المائية السطحية للدول العربية الأخرى تأتي من خارج الحدود العربية (تشير مصادر أخرى إلى أنها لا تتجاوز 66٪)، لذا، فهي تسعى للعبث بهذا الشريان الحيوي الذي يمكن له أن يعطل الجسد العربي. لهذا تنتهج دورا خبيثا من خلال تأليبها الدول التي تشكل منابع للأنهار التي تجد مصباتها في الدول العربية. وبدأت فعلاً منذ وقت ليس بالقريب في الدفع باتجاه تبني اقتراح خطير للغاية، يتمثل في إقناع المجتمع الدولي بتطبيق اقتراح تسعير المياه العابرة للحدود، وبالتالي بيعها لدول الجوار باعتبارها سلعة، وقد تمكنت «إسرائيل» منذ وقت ليس بالقريب من استمالة الموقف التركي، الأمر الذي جعل هذه الأخيرة تؤكد كلما سنحت لها فرصة أن «الماء ثروة وطنية لا يمكن التخلي عنها، فكما أن للدول العربية نفطاً، فإن لتركيا مياهاً»!. والأخطر من ذلك الدفع باتجاه تبني بعض المنظمات الدولية كالبنك الدولي ومنظمة الفاو تلك الاقتراحات، علما بأن الارتباط وثيق بين الأمن المائي والأمن الغذائي من جهة، والأمن القومي العربي من جهة أخرى.
في هذا الصدد، أكدت مصادر المنظمة العربية للتنمية الزراعية التابعة لجامعة الدول العربية خطورة الأمر بالقول، انه وفقا لذلك ستتحمل مصر 28 مليار دولار سنويا ثمنا لـ 55,5 مليار متر مكعب من المياه، والعراق 21 ملياراً، والسودان 11,8 مليار دولار، وسورية 11 ملياراً، وموريتانيا 500 مليون دولار. بينما فنَّد المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الزراعية حجة معادلة النفط بالماء انطلاقا من أن كليهما مورد طبيعي سائل، مشيرا إلى أن للنفط بدائل باعتباره مصدرا للطاقة، على خلاف الماء الذي ليس له بديل، في حين انه يمثل عصب الحياة. يضاف إلى ذلك أن النفط يكمن في باطن الأرض ويمكن الإبقاء عليه كمخزون يستخرج متى دعت الحاجة إلى ذلك، بينما المياه السطحية تجري في مسارها الطبيعي، ويجب الاستفادة منها ولا يمكن حجزها وتخزينها إلا لأغراض مقصود منها الإضرار بمصالح الدول المتشاطئة على المجرى المائي.
إن الواقع المائي العربي صعب جدا باعتراف الخبراء المحايدين، حيث لا يتجاوز نصيبه من الإجمالي العالمي للهواطل 1,5٪، بينما تتعدى مساحة الوطن العربي 10٪ من إجمالي يابسة العالم (التقرير الاقتصادي العربي الموحد، سبتمبر 1994)، كما أن أهميته تؤكدها صلاته المباشرة بجهود التنمية عموماً، وبصلاته التي تمتد لتطال موضوعات متقاطرة عدة، ربما انطوى كل منها على تحد، كالبيئة والموارد الطبيعية والزراعة والأمن الغذائي. أمام هذا المخطط الأميركي الصهيوني، لابد من تبني موقف عربي واضح، تجسده استراتيجية مائية عربية موحدة تجاه المخططات التي تستهدف الإضرار بمصالح الأمة العربية.
العدد 7 - الخميس 12 سبتمبر 2002م الموافق 05 رجب 1423هـ