العدد 8 - الجمعة 13 سبتمبر 2002م الموافق 06 رجب 1423هـ

ماتا هاري: مغامرة خرقاء دخلت التاريخ واحدة من أكبر الجاسوسات

الأسطورة وحدها صنعت منها ما لم تكن تحلم به أبدا

المشهد الاول: ربيع العام 1913، باريس. المكان: حانة ليلية من تلك الحانات التي كانت تملأ ليل عاصمة النور صخبا خلال السنوات المجنونة، في منطقة بيغال. الحضور يقهقهون ويشربون ويتبادلون التحيات والنكات، لاهين جميعا عن الحرب/ المجزرة التي كانت تقترب من اوروبا بخطى حثيثة فجأة وسط الضجيج انطفأت الانوار، وبشكل تلقائي يعم صمت منذر... ويشخص الحاضرون جميعا، وجلهم من الذكور ومن بينهم ضباط وفنانون وبعض الاجانب، يشخصون نحو خشبة المسرح القائمة في صدر المكان، هناك وسط الظلام الدامس تتلألأ اضواء ملونة آتية من السقف، لتكشف عن فتاة رائعة الحسن ترتدي ثيابا غريبة وفاضحة في الوقت نفسه، وثيابها تلك تبرق بألف لون ولون، تقف المرأة هادئة وسط المسرح وتسرح انظارها في الحضور. ثم تنظر نحو النجوم الاصطناعية فوقها وتقول كالحالمة: «ان الرقصة التي أقدمها الليلة هي رقصة طقوسية تمارس منذ آلاف السنين في المعابد، في البلد الذي ولدت فيه. انها رقصة مهداة إلى الالهة سيفا، «الهة القلق والقسوة والخطيئة» وتنطلق السيدة في رقصها مثيرة الحضور.

المشهد الثاني: بعد سنوات قليلة، شهر اكتوبر/ تشرين الاول 1917، السيدة نفسها تشخص اليها أبصار الحضور، ومعظمهم هذه المرة من الجنود والضباط. وليس هناك اجانب غيرها. السيدة لا تؤدي هذه المرة رقصة سيفا، بل تمارس رقصة الموت الاخيرة. ذلك أن الجنود ليسوا هنا للإعجاب بها، بل لاعدامها.

ذلك ان الفاتنة انكشفت جاسوسة للألمان تزودهم بالاخبار والوثائق والتقارير خلال الحرب العالمية الأولى. ولم تكن تلك الفضيحة الوحيدة فيما يخصها... لكنها كانت الفضيحة الأكبر. فالسيدة تبين انها لم تولد في بلاد الالهة سيفا، ولكن في هولندا، وانها حتى وإن كانت راقصة فإنها ليست راقصة شرقية بأي حال من الاحوال.

ولئن كان الناس في ليل باريس الصاخب عرفوها باسم ماتا هاري، فإنهم فوجئوا حيث قبض عليها بأن اسمها، في الحقيقة، اقل اثارة بكثير، مرغريتا جرترودا تسيللي. ومرغريتا هذه التي اختارت ماتا هاري اسما فنيا لها، دخلت به الخلود، كانت في الحادية والاربعين حين اعدمت رميا بالرصاص في حصن فنسان، جنوبي العاصمة الفرنسية، وستدخل منذ يوم اعدامها، عالم الاسطورة ليست كراقصة حملت الشرق وسحره الى اوروبا، بل كعميلة للألمان، سيظل مؤرخو حياتها يتساءلون عن دوافعها، ودائما يقرون على اجابة واحدة: الحب أو هذا ما ارادت ان تؤكده على الاقل، الحكايات التي رويت عنها طوال القرن العشرين والافلام العديدة التي حققت عن حكايتها والتي - ويا لغرابة الامر - غالبا ما ابدت تعاطفا معها، على رغم اعتبارها اعظم واغرب جاسوسة عرفها القرن العشرون.

امرأة دينامية

واذا كانت حكاية ماتا هاري قد انتهت في ذلك اليوم الخريفي من العام 1917، فإنها بدأت قبل ذلك، في العام 1876، في مدينة ليرفاردن إلى الشمال الغربي من هولندا. والحال اننا لا نعرف الكثير عن طفولة تلك الفاتنة، باستثناء ان اباها كان تاجرا افلس باكرا، وهي تزوجت وكانت في التاسعة عشرة من الضابط الهولندي، ودولف ماكلويد، الذي اصطحبها معه إلى جزر الهند الهولندية - اندونيسيا - حيث عاشت ردحا من الزمن وفتنت بالرقص الشرقي. ولقد عرف انها انجبت من زوجها الضابط ولدين، مات احدهما باكرا. وخلال عيشهما في تلك المناطق الآسيوية النائية تنقل الزوجان بين سومطرة وجاوا... لكن مرغريتا سرعان ما سئمت الحياة الزوجية ومتطلباتها، خصوصا ان السنوات التي عاشتها في الشرق فتحت ذهنها على الحياة والرقص والمغامرة... وهكذا ما ان عاد الزوجان الى هولندا، بحكم عمل الزوج في الجيش، حتى تركت مرغريتا الحياة العائلية منصرفة الى حياتها الخاصة، وكانت عند ذلك في السادسة والعشرين. لكنها في تلك السنوات لم تكن تلك الحسناء التي ستعرفها ليالي الحانات لاحقا. كانت عادية المظهر، لكنها كانت ذات دينامية غريبة، وذات ذكاء مشتعل وكان اتقانها الرقص يزيد من قدرتها على الحركة ومن ليونتها. وكمن سحرها هنا. وهي حين وصلت الى باريس للمرة الاولى لترقص هناك سمت نفسها «ليدي ماكلويد» لكن رحلتها الاولى الى باريس لم ترضها... وهكذا عادت الى هولندا محاولة ان تعثر على عمل هناك... لكن الزمن في هولندا لم يكن يتيح لأمثال مرغريتا عملا وعيشا هنيئين، لذلك بعد عام امضته في وطنها عاطلة عن العمل، عادت الى باريس مرة أخرى... وهذه المرة اتبعت دربا اكثر مواربة وإثارة: تخلت عن اسم ليدي ماكلويد، ونسيت انها تدعى مرغريتا، لتطلق على نفسها اسم «ماتا هاري» وهو يعني بلغة ماليزيا «عين النهار» - اي الشمس - وفي الوقت نفسه اخترعت الحسناء الراقصة لنفسها تاريخا وماضيا، راحت تفخر بهما: هي الآن ابنة امير من امراء جنوب الهند - احيانا - ومن امراء جزيرة جاوا في احيان اخرى، وهي دخلت عالم الرقص الطقوسي المقدس تبعا للتقاليد في «وطنها» الاصلي منذ نعومة اظفارها وها هي الآن تريد ان تنشر «الرقص الشرقي» في اوروبا.

ليالي باريس

وصدق الباريسيون الحكاية. وهكذا وسط حكايات ملأت صحف ذلك الحين ووسط صخب اعلامي مدروس، كانت نقطة الانطلاق يوم 13 مارس/آذار 1905 في مكتبة في الطابق الثاني لمتحف «غيمه» حوّل المناسبة الى معبد هندوسي. وهناك وسط حضور مشدوهين، وقفت ماتا هاري نصف عارية وقد احاطت الاساور بذراعيها لتؤدي رقصها البديع والغريب، ولقد روت الصحافة آنذاك انه كان من بين الحضور بعض علية القوم ولا سيما سفير المانيا واليابان.

وفعل السحر فعله. وبين ليلة وضحاها صارت ماتا هاري سيدة من سيدات الليل الباريسي: ثروة راحت تتراكم، عشاق يقفون عند بابها خاضعين، مجوهرات تقدم اليها... وليال صاخبة مجنونة. ولكن ليس في باريس وحدها بل كذلك في برلين. وفي العاصمة الالمانية حدث لماتا هاري ان وقعت في غرام ضابط الخيالة الفرد كيبرت، الذي اغرمت به حقا إلى درجة ابتعدت من اجله عن الرقص عامين تقريبا.

لكن ماتا هاري لم تكن، بعد كل شيء من النوع الرومانسي، لذلك تركت كيبرت بعد ذينك العامين وعادت من جديد الى الرقص بمعاونة صديقها الدائم ووكيل اعمالها غابريال اكستروكا. ولكن بعد ثلاثة اعوام أخرى، هجرت الرقص من جديد، لتفلس هذه المرة المصرفي الفرنسي الثري كزافييه روسو وبعد افلاس هذا الاخير وبالتالي انتهاء علاقتها به، وها هي تعود إلى الرقص مجددا وتقوم بجولة في ايطاليا، ثم تحقق نجاحا كبيرا في «الغولي برجار» في باريس، ومن هناك توجهت الى المانيا حيث استقرت لفترة منذ العام 1914.

عميلة مزدوجة

في اغسطس/آب من ذلك العام اندلعت «الحرب الكبرى». ولما كانت هولندا، وطن ماتا هاري الاصلي، محايدة في تلك الحرب، وآمنة بعض الشيء، توجهت الحسناء الثلاثينية الى لاهاي برفقة حاميها وعشيقها الجديد البارون فان در كابلن. وهناك على رغم عناية البارون بها، سئمت ماتا هاري بسرعة حياة هولندا وراح يداعبها حلم واحد: أن تعود إلى باريس. وفيما كانت تعيش انعش ايامها في لاهاي، حدث ذات مساء ان زارها كارل كرام - قنصل المانيا في امستردام، والذي لم يكن في الحقيقة سوى ضابط في المكتب الثالث التابع للجيش الالماني (مكتب التجسس) والذي كان معاونا للكولونيل نيكولاي، احد كبار رجال الاستخبارات الالمانية آنذاك (وهو شخص سيطالعنا اسمه مرارا وتكرارا في حكايات التجسس الالمانية كلها خلال النصف الاول من القرن العشرين). فما الذي كان كرامر يريده من ماتا هاري؟

بكل بساطة كان يريد منها ان تعود لتقيم في باريس، اي ان يحقق لها حلمها، والثمن؟ ليس اكثر من ان تجمع للجيش الالماني معلومات حربية كان في أمس الحاجة إليها خلال تلك الحرب، ولم تتردد ماتا هاري في القبول، وخصوصا ان القنصل اخرج من جيبه 20 ألف فرنك فرنسي معطيا اياها للراقصة وهو يقول ان هذا المبلغ ليس سوى الدفعة الاولى. وهكذا وهي في الاربعين من عمرها تماما، دخلت ماتا هاري ومن دون ان تعي خطورة ذلك - كما ستقول خلال محاكمتها في فرنسا لاحقا - عالم الاستخبارات وصار لها اسم مشفر هو «هـ 21».

المهم بالنسبة اليها كان، اذا، أن تعود إلى باريس... وها هي تعود وفي جيبها مبلغ من المال كبير ولها من يحميها وفي باريس سرعان ما ارتبطت بضابط روسي شاب يدعى فاديم ماسلوف. وفي الوقت نفسه، وفيما كانت تسعى إلى الحصول على اذن يخولها دخول منطقة فيتيل الحساسة في فرنسا، تعرفت الى النقيب لادو، الذي كان يعرف في ذلك الحين بأنه من اساطير اجهزة مكافحة التجسس في الجيش الفرنسي... والغريب في الامر ان لادو، الذي كان رئيسا لجهاز مركزة المعلومات، آثر ان يستقبل «فاتنته» الجديدة في مبنى وزارة الحربية. صحيح ان الرجل خامرته بعض الشكوك تجاه تلك الراقصة ذات الماضي الصاخب والتي هبطت عليه فجأة لكن هذا لم يمنعه من ان يطلب منها العمل مع اجهزة مكافحة التجسس الفرنسية، قائلا لها ان اجرها سيكون كبيرا، «ولكن على القطعة» أي انها سوف تقبض فقط حين يتبين لاجهزته ان المعلومات التي تزوده بها صحيحة ومفيدة، وقبلت ماتا هاري لتصبح فجأة «عميلة مزدوجة»... ودائما من دون ان تدرس الاخطار التي تعرض نفسها إليها... اما لادو، فقد رأى ان عليه ان يختبرها، لذلك ارسلها في مهمة أولى الى اسبانيا.

خطأ إنجليزي بسيط

ولكن على متن السفينة التي كانت تقلها الى هناك، كان سوء الطالع لها بالمرصاد... على صورة قوات بحرية انجليزية اعترضت مسيرة السفينة. وفيما كان الانجليز يدققون في هويات الركاب، اختلط الامر عليهم، اذ خيل اليهم ان هذه المرأة الاربعينية ذات المظهر الباذخ ليست سوى كلارا بنديكس، احدى نجمات التجسس الالمانيات، واذ قام بازيل طومبسون، رئيس شعبة المهام الخاصة الانجليزية بالتحقيق معها، اتصل بالنقيب لادو، ثم عاد وأرسلها الى اسبانيا اذ تبين له انها ليست كلارا، ووصلت ماتا هاري الى مدريد، التي كانت آنذاك على الحياد. وهناك راحت تحاول ان تلعب لعبتها المزدوجة، اذ وضعت نفسها على اتصال، حينا مع الملحق العسكري الالماني هانز فون كالي، وحينا مع الكولونيل دنفيني، مسئول اجهزة المخابرات الفرنسية في اسبانيا، وبعد ايام، خيل الى ماتا هاري (العميلة هـ 21) أنها قد حصلت على معلومات مهمة تتعلق بعمليات تقوم بها الغواصات الالمانية عند سواحل المغرب، فحملت معلوماتها واسرعت عائدة الى باريس وهي تتوقع من لادو ان يعطيها مبالغ طائلة من المال لقاء تلك المعلومات، وهكذا تركت العاصمة الاسبانية يوم 2 يناير/ كانون الثاني 1917، لتصل باريس بعد يومين.

غير ان المسكينة لم تكن تعرف ما الذي ينتظرها في باريس، لم تكن تعرف ان الارض كانت قد بدأت تميد تحت قدميها، ذلك ان الفرنسيين كانوا في تلك الاثناء قد التقطوا رسالة مشفرة بعث بها فون كالي الى برلين، قبل ذلك بثلاثة اسابيع، يتحدث فيها عن المهمات التي تقوم بها «العميلة هـ 21» واصفا اياها بأنها «عميلة قسم تجميع المعلومات في كولونيا» وكان كالي كما يبدو نشيطا في ارسال الرسائل، اذ تم التقاط رسالتين اخريين منه ارسلهما ايضا إلى برلين بعد ذلك، تحدث في واحدة منهما عن ضرورة أن تسحب «العميلة هـ 21» 15 ألف فرنك ارسلت عن طريق «الكونتوار الوطني» في العاصمة الفرنسية بواسطة القنصل كرامر.

وكان هذا كافيا...

وهكذا في يوم الجمعة 13 فبراير/ شباط من ذلك العام نفسه، دخلت مجموعة من رجال الامن العام الفرنسيين بقيادة الملازم بربوليه، غرفة الفندق حيث تقيم ماتا هاري في الشانزيليزيه، واعتقلتها. وعلى الفور نقلت الراقصة غير الفطنة إلى دائرة الشرطة ومن هناك الى سجن سان لازار.

ومنذ تلك اللحظة، خرجت ماتا هاري من هذه الحكاية البسيطة والعادية لتدخل الاسطورة ومن دون ان يعرف احد كيف او لماذا، وراحت الحكايات تتتابع: وقعت في الغرام فتاهت وانفضحت (استنادا الى علاقتها بالروسي ماسلوف الذي كان في الحقيقة عميلا فرنسيا وهي كانت تعتقده يعمل لحساب المانيا - وشت بها ممثلة فرنسية غيورة هي كلود فرانس، كانت تريد ان تحل محلها - لادو نفسه اراد الانتقام منها لخيانتها العاطفية له - الالمان حرقوها لأنها لم تكن مفيدة لهم... الخ.

غير ان تلك الحكايات كلها لن تصمد في الحقيقة حتى وان شكلت مادة الافلام والحكايات. ففي الحقيقة، لم تحاكمها المحكمة إلا استنادا إلى الوقائع التي وفرتها لها اجهزة مكافحة التجسس. وخلال المحكمة اكدت ماتا هاري ما كان قد بدأ يقال عنها: انها ليست اكثر من امرأة خرقاء مغامرة لا تعرف ماذا تريد، وضعيفة الشخصية، ولقد ادى بها هذا الى التخبط ثم الى الاعتراف بكل شيء.

وهكذا ادانتها المحكمة وحكمت عليها بالاعدام، ولولا ان الزمن كان زمن حرب لما كانت أعدمت، ذلك ان ما قامت به لم يكن ليدخل في باب التجسس الكبير ولا الخيانة العظمى، لكن فرنسا كانت في حاجة إلى تسجيل نقاط وكان هذا من سوء طالع تلك الراقصة التي عاشت حياتها في الكذب وماتت من دون ان تدري لماذا. ومن دون ان تدري ان دخولها الاسطورة سوف يعطي حياتها ومغامراتها مذاقا آخر لم تكن تتوقعه

العدد 8 - الجمعة 13 سبتمبر 2002م الموافق 06 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً