العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ

منطق الزنابير وحق التضحية بالآخر

ثمة صورة سوداوية بشعة وردت في كتاب الناقد البلغاري / الفرنسي تزفيتان تودوروف«فتح أمريكا» حول أبشع المجازر التي عرفها تاريخ الإنسانية حيث حجبت جحافل الغربان ضوء الشمس لكثرتها، ولكثرة جيف القتلى من الهنود.

أما منير العكش الباحث في الإنسانيات، وأحد المشتغلين بموضوع الهنود الحمر، فنقل أن بطون التماسيح والغربان امتلأت على آخرها من جثث ضحايا الرجل الأبيض الذي أعطى نفسه حق استبدال شعب بآخر وثقافة بأخرى. ولكن ما هي آليات هذا الحق، وكيف كانت التطبيقيات، وما هي مسوغات ذلك، وهل تم نقل التجربة إلى فضاءات جغرافية أخرى؟

هذه الأسئلة هي محور كتاب العكش: «حق التضحية بالآخر، أمريكا والإبادات الجماعية «رياض الريس، يونيو/حزيران 2002 م، 200 صفحة».

ويذكر المؤلف أن هذا الحق ارتبط ارتباطا غريبا ما بين منطق الُمستعمر - أو كما يحلو له الزنابير أي البيض، الأنجلو، ساكسون، البروتستانت ـ وبين إضفاء هالة دينية توراتية على هذا الاستعمار الذي أتى بأبشع أنواع التقتيل، ليفني ملايين البشر، ويظل يطارد بقاياهم حتى سبعينات القرن الماضي عن طريق تعقير النساء. في حين أن المسافة المفترضة ما بين النهب واللصوصية والقتل، وما بين الدين تبدو مستحيلة لكن هذا ما جرى، حيث أن القاتل لا بد أن يزين أفعاله بديباجات تؤكد هذا الحق وتدعو له رسميا وشعبيا. وبهذا المنطق يستحيل اصطياد الإنسان للإنسان هواية محببة أو هي كالسلوى في صباحات أو أمسيات الملل، وهو ما حدث لاحقا في كل منطقة جغرافية طالها الرجل الأبيض، وصولا إلى العراق وأفغانستان. ويفصل العكش في كتابه آليات هذا التقتيل، بدءا من أول معركة جرثومية استخدمت في التاريخ بواسطة جراثيم أمراض جاءت من أوروبا، وكانت قد فعلت فعلها هناك، وفي الوقت نفسه لا يعرفها الهندي الأحمر كأن تدس له في هدايا يتلقاها من الأبيض، وهو ما يصطلح عليه بالعامل الطبيعي لإبراء الذمة! إلى الترحيل المستمر من منطقة إلى أخرى، إلى فرض الحصار وإحراق المزارع أو سحق البنى الاقتصادية وخطف الأطفال، والاستعباد والسخرة القاتلة والتجويع الإجباري، وصولا إلى التسلية الفردية، التي كان الرجل الأبيض ينال من ورائها مكافأة خيالية تعادل ما يحصل عليه طيلة سنوات من العمل مقابل كل فروة رأس لهندي أحمر أو مقابل التمثيل بالجثث وخوزقتها أو الاحتفاظ ببعض أجزائها كنوع من ذكرى الحرب البطولية، أو حتى للتهادي، وهذه كلها أفعال طقسية دينية !!

وعلاوة على الحق السماوي الذي جاء بهؤلاء من وراء البحار، والعناية الإلهية التي كانت تنير دروبهم وتبارك أفعالهم ـ حيث يعد الرجل الأبيض القادم إلى هذه الأرض قديسا أو حاجا ـ فإن هذا الهندي الذي يعبد الأوثان، يقف حجر عثرة إزاء الحضارة المقبلة إليه، وعليه وجب التخلص من هذا العبء وإزاحته إلى غير رجعة.

إن إضفاء هالة القدسية على كل قتل، وكذلك على كل استراتيجية انقلابية قام بها البيض على من أكرم وفادتهم، واستقطع من أراضيه ليهبهم إياها، وتقاسم معهم الماء والزرع، هي الاستراتيجية التي لازمت هذا الرجل في أفعاله من منطلقات وتبريرات تشير إلى أنها رسالة من الإله يجب العمل بها، والانصياع إلى الأوامر السماوية، بشكل فوري أو عن طريق تدبير آخر يحتاج مرحلة القتل والتشريد. وقد تم ذلك بطريقتين الأولى كانت عن طريق توقيع الاتفاقات، ثم نكثها بعد حين، والثانية بإقامة التحالفات مع إحدى القبائل ضد أخرى، ثم الانقلاب على الحليف بعد التخلص من الطرف الأول. كما قام صناع القرار السياسي بشرعنة هذه الأفعال باستصدار القوانين الهادفة إلى الحد والحصر ومن ثم التخلص للاستيلاء على الأراضي، وفيما بعد عن طريق إكمال المشهد بتهريج هوليوودي.

وأعظم مفارقة ساقها هذا التاريخ الملوث في سبيل تغطية هذا الإفناء المتعمد، إعادة إحياء فكرة أرض «إسرائيل» التاريخية التي تحتاج إلى معادلة مكونة من ثلاثة أطراف: الأول عبراني منتمٍ إلى عرق مختار أنجلوساكسوني بالضرورة والثاني همجي متوحش يبنغي التخلص منه وتصفيته جسديا وثقافيا، والثالث الأرض وهي أرض المعياد أو صهيون أو أورشليم، وهو ما لاحظه المؤلف في نصوص الأدب التي كتبها شعراء مجدوا هذا العنف الدامي، رغم أن هؤلاء من أشد وألد أعداء السامية.

إن أهمية هذا الكتاب تأتي في سياق الدراسات التي جاءت لدراسة الآخر نصيا، وهي قليلة عموما في الفضاء العربي، قياسا بكون هذا النوع من الدراسات يمثله اتجاهات عديدة ونظريات مختلفة وضع حجر أساسها عدد من المثقفين من بينهم إدوارد سعيد وهومي بابا وغيرهما. وهي دراسة ممتعة على مستوى استراتيجية القول وتكتيكات الخطاب، وسيجد القارئ أنه أمام بحث شائق يعتمد حوارية جذابة بين النصوص المقتبسة التي تسير خطوة بخطوة مع نص المؤلف وبحثه، وكأننا فعلا أمام رواية ذات سبعة فصول، كل فصل يبني مشهدا حول آليات وذرائع ما حدث، والتبريرات التي كانت تساق بإضفاء هالة قدسية على هذا الإنسان الذي تم تأليهه. في حين كان الآخر نكرة يستوجب التخلص منه في أفضل الحالات، وأن هذه الأرض كانت خالية ومهجورة في كل الحالات، كما هو التبرير المقدم من الكيان الصهيوني. أما غير المهجور فكان العامل الطبيعي والحضاري قمينا بإفنائه. كما يتجلى البعد الإمتاعي للفعل التأليفي الذي أتى به هذا الكتاب في أنه لم يعتمد على سرد متوالٍ في خط مستقيم يبدأ منذ وصول هؤلاء، بل يجد القارئ تذبذبا في طرائق العرض، واختلافا في آليات إيضاح الصورة وإنضاج أبعادها المختلفة، كما استعان العكش بهذه المحرقة العظمى في تاريخ الإنسانية ليدلل على وجود تقاطعات مثيرة بذكر أمثلة شبيهة لاستراتيجيات هذا التقتيل في أماكن أخرى من العالم، وليصبح الهندي الأحمر الحالي موضع تهديد حيث أنه يمتلك حوالي 3 من الأراضي الأميركية، فيما تجري المحاولات الكثيفة لاستعادتها، ويصبح من ثم الهندي مجرد اسم يطبع على الأسلحة الفتاكة مثل «التوما هوك»، وتصبح مآسيه متحفظا عليها في التدوين الرسمي بكل جبروته وتلفيقه. ويبقى الأهم تدشين دراسة جديدة لطرق تمثل الآخر وتمثيله، وكيفية اللعب الرمزي، والتبرير الميتافيزيقي، والإنكار العام لهذا السحق الذي لا مثيل له، يبقى غير بعيد في إطاره العام عن النموذج النازي الذي أتى فيما بعد بحمولة عنصرية، أدت إلى ما أدت إليه

العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً