العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ

نقولا زيادة: ذهبت إلى لندن للدراسة... ضاعت فلسطين فعدت إلى بيروت

شيخ المؤرخين العرب يتذكر أيام الطفولة والشباب «2»

95 سنة مضت على طفولة شيخ المؤرخين العرب نقولا زيادة، وحتى الآن لايزال يتذكر تفاصيل الأيام مرها وحلوها في الشام وفلسطين.

الزميل وليد نويهض التقاه في بيروت وروى له ماضي تلك الايام. وهنا بعضها...

في الحلقة الأولى تذكر أيام دمشق ورحيل والده المبكر وعودته مع امه واخوته إلى الناصرة وجنين، ورحيل والدته وتحمله مسئولية إعالة اخواته. وانتهت الحلقة الأولى في محطة دار المعلمين في القدس ونجاحه في امتحان دخول هيئة التدريس.

وهنا بعض محطات ما تبقى من ذكريات فلسطين اذ سيغادرها الشاب الطموح إلى الدراسة في لندن... ولم يرجع إليها إلى الآن. فهناك من احتل داره في عكا.

قضيت ثلاث سنوات في دار المعلمين، وحين تخرجت في 2 يوليو/تموز 1924، كان عمري 16 سنة و7 اشهر. وبدأت التعليم في الـ 17. علّمت أول سنة في بلدة ترشيحا قضاء عكا. ونقلت في السنة التالية الى المدرسة الثانوية في عكا. وهناك بدأت المشكلة. ليس بين ايدينا كتب للتلامذة. لبنان كانت فيه مدارس من قبل، في فلسطين لم تكن هناك كتب مدرسية. المدارس الخاصة كانت تأخذ كتبا مدرسية من لبنان. وكنت اتعلّم الدرس مساء وأعلمه في الصباح، وبقيت على هذه الحال نحو سنتين.

كانت رغبتي ان ادرّس الرياضيات، ولم احب التاريخ ابدا، لكن ظروف العمل تطلبت ان ادرّس التاريخ. وظللت ثلاث سنوات اعلّم واتابع دراستي الخاصة في الرياضيات. ووجدت لاحقا ان «بطيختين في يد واحدة» لا تحملان. تركت الرياضيات واشتغلت في التاريخ جديا واحببت المادة وعشقتها.

ظللت 10 سنوات من العام 1925 الى العام 1935، اطمع بالحصول على بعثة تعليمية في الخارج، لكن مشكلتي ان امي توفيت بعد تخرجي من دار المعلمين بسنة واحدة، فأصبحت مسئولا عن عائلة.

ماليا كان معاشي جيدا، لكن نحن في عكا وغرباء بالنسبة اليهم. كانت هذه مشكلة مهمة. لم افقد الأمل، لكنني في تلك الفترة لم اكتف بأن ادرس لأعلّم بل لأتعلم، ولذلك بعد عشر سنوات من تعليم التاريخ القديم، كنت اشعر انني لا اقل معرفة ابدا عن اي شخص يحمل اجازة من الجامعة الاميركية. الى ان جاء الحظ. كان بيني وبين نائب مدير المعارف معرفة اكاد اسميها صداقة. في فلسطين لم تكن هناك وزارة بل كان هناك مدير المعارف ونائبه وكانا انكليزيين، والمساعدون مختلفون. وحين كنت الاقي مشكلة في التاريخ القديم لا استطيع حلها، وهذا حدث اربع مرات او خمس، كنت اراجعه. كتبت له مرة فأجابني بخمس صفحات. اقتضى الامر ان اقول له في رسالة خاصة، بعدما وجد اخي الاصغر عملا: انا احب ان ادرس لكن يبدو ان الامور ليست واضحة، هل من الممكن ان ارسل الى انكلترا لادرس التربية.

بعد ايام جاءني امر بالذهاب الى القدس للقاء مستر كيريل. سافرت ليلا. كنا نعطل الجمعة والأحد، والموعد كان الجمعة، ودخلت عليه. قال لي: انت تعرف رأيي في الذين يدرسون تربية وتعليم، وأنا لا اقيم لهم وزنا. اذا قرأت كتابا في التعليم وادارة المدرسة ولديك الرغبة بأن تكون معلما، يكفيك اعرف انك قدمت امتحان المعلمين الاعلى وانا كنت احد الفاحصين. ماذا تريد من هذه، ثم انك لا تحب ذلك. قلت في عقلي: ابن الكلب، يشحطني من عكا الى القدس ليقول لي هذا الكلام. فاذا به يلتفت ويقول: عندي بعثة لثلاث سنوات الى انكلترا لدراسة التاريخ القديم اليوناني والروماني، هل تأخذها؟ قلت: طبعا. قال لي: هل انت متزوج. قلت: لا. قال: احسن «هو لم يكن متزوجا». تحدثنا عن هذه البعثة وامكاناتها، وقلت: مستر كبريل، هذه المنحة للسنة المقبلة. قال: لا أنا بعثت الى جامعة لندن لأحجز لك مكانا ويجب ان يأتي الجواب في عشرة أيام وعليك ان تحضر نفسك. دع الامر بيننا الى ان يأتي الرد.

عدت الى عكا، وانتظرت 11 يوما، فلم يأت خبر، فقلت راحت. كان لي صديق في عكا، وهو واحد من اصدقاء كبار السن منهم الشيخ أسعد الشقيري وبديع الله بهائي أخو «عباس البهائي» زعيم البهائية، هذا كان صديقا لي. يوم الجمعة كنت اخرج من المنزل وأمر به واشرب الشاي عنده واذهب الى مقهى على مقربة من بوابة عكا، اجلس فيه، لأن في ذلك اليوم كان يأتي عدد كبير من المعلمين في القرى، وعدد كبير منهم كانوا من اصدقائي وبعضهم علمني، حتى اذا ارادوا شيئا استطيع مساعدتهم. كانوا يعرفون ان نقولا زيادة في يوم الجمعة من العاشرة الى الثانية عشرة في المقهى. مررت على المقهى، شربت فنجانين، قلت سأكتفي اليوم. قال: لماذا؟... عادتك تشرب ثلاثة فناجين شاي!! قلت: انتظر خبرا. تركت المقهى الى مكتب البريد. لم يكن في المدرسة هاتف. وجدت نائب مدير المدرسة، وسألني: هل وصل اليك الولد الذي ارسلته؟ قلت: لا، خير ان شاء الله. قال: جاء أمر اليوم بأن تسافر الليلة الى القدس - وكان الجمعة - لتكمل معاملتك غدا وتسافر الأحد الى لندن.

تركت عكا ولم تكن لدي حقيبة. استعرت حقيبة من اصدقاء وقلت لهم اردها لاحقا. وذهبت، وفي اليوم التالي انجزت المعاملة، وسافرت الأحد بالقطار الى بورسعيد فوصلت صباح الاثنين، وكانوا حجزوا إليّ غرفة في الفندق، وفي اليوم التالي ظهرا ركبت الباخرة وسافرت.

أقمت في لندن أربع سنوات لكن جزءا كبيرا منها كان في ألمانيا، لأنني تعلمت الألمانية وحضرت فصلا كاملا في الجامعة لدراستها. وأظن ان من حظي الطيب - الى الآن يلاحقني - ربما لأن نيتي طيبة، ذهبت الى جامعة لندن بما يسمى السنة الثانية الجامعية لأن شهادتنا كانت تعادل السنة الأولى. سجلت الموضوعات التي اريدها وهي ثلاثة، منها تعلم الألمانية. واحد من المدرسين كان استاذ التاريخ القديم في جامعة لندن، واوجدوا هذا المنصب تكريما له. ذهبت الى مكتبه فوجدت نفسي وحيدا. تلميذ واحد. قال لي: مستر زيادة أهلا وسهلا. انت لا تنتظر ان أعطيك محاضرات. فأجبته: لا، لكنني مستعد ان اتعلم بالطريقة التي تختارها. قال: تكتب لي كل اسبوع مقالا قصيرا في موضوع نتفق عليه مسبقا، وتبعث به إليّ قبل موعد اللقاء بيومين. ونلتقي ونناقشه فأدلك الى الاخطاء وتأخذ المعلومات التي يمكن ان أقدمها لك. سنة كاملة تعلمت على يد ذلك الرجل. وفي السنة التالية سجلت اسمي عنده فوجدت نفسي وحيدا. ابتسم وقال: هذه السنة ستكتب مقالا كل اسبوعين. لكن هذه المرة ستضمنه هوامش ومصادر وتبيّن لماذا تقبل هذا الرأي وتناقشه.

تدربت على يد هذا الرجل، وهذا أمر لا أنساه لهذا الرجل الكبير. كان يعطي طالبا واحدا غير انكليزي كل وقته. لاحقا حصل الأمر نفسه مع أستاذ آخر في التاريخ البيزنطي. ذهبت فوجدت نفسي أيضا وحيدا. قال: لا اريدك ان تكتب كل اسبوعين مقالا كما فعلت السنة الماضية، بل اريدك في هذه السنة ان تكتب مقالين فقط، واحد للسنة النهائية في الجامعة. اضاف: حسنا يا رجل ارحل. وحين هممت بالخروج قال: اختر الموضوع الذي تريده لكن اخبرني بعنوانه. وهذا ايضا دربني لكن على مستوى أعلى. وحين ذهبت للحصول على الاجازة كنت في الثامنة والعشرين. بالنسبة للطلاب الآخرين كان هناك فارق بيني وبينهم نحو عشر سنوات، وكان هناك شيء من التعاطف معي والاهتمام بي من الاساتذة.

بعد التخرج عدت الى القدس، وعملت في «الكلية العربية» وهي دار المعلمين التي تعلمت فيها وتبدل اسمها العام 1927. وحين تغيرت كانت لا تزال في المبنى الذي تعلمت فيه وكان مستأجرا. وحين عدت اعلم فيها كانوا بنوا لها مبنى خاصا خارج اسوار المدينة وكان المكان جميلا. عملت من الـ 1939 الى العام 1947. وحين اعطيت منحة من الحكومة الفلسطينية والمجلس البريطاني الى انكلترا لأعد الدكتوراه ذهبت في العام 1947، وكنت متزوجا وولدي رائد كان مولودا. سبقتهما ثم لحقا بي. التقيت رئيس القسم وعين لي مشرفا لرسالة الدكتوراه. قابلني المشرف في السنتين اربع مرات. الأولى ربع ساعة في مكتبه، والثانية بعد اسبوع، والتقينا ايضا ربع ساعة وقال: المرة المقبلة لن نلتقي في المكتب، هل تمانع في ان تأتي الى منزلي؟...

ذهبت الى منزله، فبقينا ساعتين ونصف ساعة. ساعة ونصف الساعة حدثني فيها عن اعماله المتعلقة بأعمال الحديد والصلب في ايام المماليك، ثم قال: انت آتٍ اليّ من اجل رسالتك، حدثني عنها. المرة الرابعة والأخيرة كانت قبل ان ابعث رسالتي للمناقشة. وكنت ذهبت الى كمبردج أعلم، كتب ليّ رسالة قال فيها: التقيك في مكتبي وابقى معك الى موعد آخر قطار. كان لدينا خمس ساعات. اخذت له نسخة وكنت طبعت الرسالة. المشرف لم يقرأ كلمة من رسالتي، وهي كانت عن بلاد الشام وسورية في أيام المماليك الأوائل.

حصل في تلك الفترة أمران، أحدهما قرار التقسيم وثانيهما رفض العرب التقسيم والحرب، وكانت نتيجتهما اقامة دولة «اسرائيل»، والمنطقة التي كنت سأعود اليها احتلها الاسرائيليون، و«الكلية العربية» اقفلت وأخذها اليهود لاحقا، ودائرة المعارف راحت، ولم يعد لي عمل، والانكليز رحلوا.

كتبت لصديق آنذاك وقلت له: أصبحت في هذا البلد لا بيت لي، لا وطن، ولا عمل. بدأت ابحث عن عمل وكان لحسن حظي اني جئت الى الجامعة الاميركية في بيروت. فأنا لم آتِ لاجئا الى لبنان، بل جئت من لندن. قيل لي يمكنك ان تسجل لاجئا، فرفضت. قيل لي: هناك حقوق، فقلت لهم لا حق لي، علما ان القضية لم تكن هكذا بل لأنني لم ارد ان اسجل لاجئا، على رغم انني لم أكن افرق بين لبنان وفلسطين والشام. فكنت اشعر انها بلادي.

جئت الى الجامعة الاميركية وبدأ عملي فيها في أكتوبر/تشرين الأول 1949، وأنا لا أزال أقيم في هذا البلد

العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً