من المعروف أن المغني والممثل الأميركي الشهير فرانك سيناترا، كان صديقا للرئيس جون كنيدي، كعضو في تلك الجماعة من الفنانين، التي تضم بيتر لاوفورد ودين مارتن وسامي دايفيز، وآخرين، والتي كانت مسيطرة على الحياة الفنية في هوليوود، وعلى حياة القمار في لاس فيغاس آنذاك، إضافة إلى ارتباطها بكنيدي. ومنذ «انتحار» مارلين مونرو، لم يتردد كُثر عن الحديث عن ارتباط تلك الجماعة نفسها بالمافيا، وعن دور ما للمافيا في «انتحار» فاتنة السينما. ولما كان اغتيال جون كنيدي قد أتى بعد شهور من انتحار مارلين مونرو، وكانت النظرية المتحدثة عن دور للمافيا في مقتل كنيدي، كان في وسع البعض التساؤل، حقا، عن المهمة التي قام بها فرانك سيناترا نفسه، في صقلية خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1963، وتحديدا قبل شهر واحد من مقتل جون كنيدي. ذلك أن تلك الزيارة تعتبر فصلا في حياة سيناترا لم يجر الحديث عنه كثيرا.
وقبل الإشارة إلى تلك الزيارة، لابد من أن نتوقف هنا عند ماريو بوزو، الكاتب الذي اقتبس فرانسيس نورد كوبولا، روايته «العراب» في فيلمه الشهير ذي الجزأين (ألحق بعد ذلك بجزء ثالث لم يرق إلى مستواهما). فماريو بوزو، وكما صرح هو نفسه لاحقا، انما استخدم شخصية فرانك سيناترا، معطيا اياه اسم جوني فونتانا، في روايته (وفي الفيلم بالتالي)، بوصفه محميا من «العراب» الذي يحبه ويصغي إليه بشغف، ويفرضه على الحفلات وشركات الاسطوانات، ما يجعل جوني يدين إليه بالكثير.
ومن المؤكد أن الربط بين فرانك سيناترا وجوني فونتانا لم يكن مجانيا، بل أن زيارة سيناترا لصقلية تؤكده وتعطيه كل ابعاده، اضافة إلى قدرتها على طرح الأسئلة عن علاقة للزيارة بمقتل كنيدي - على يد المافيا، في واحدة من الفرضيات السائدة -. ولقد تحدث كاتبو سيرة سيناترا، عن أن هذا المغني العاطفي، خدم دائما كهمزة وصل بين المافيا (الايطالية) والكوزا نوسترا (ابنة عمها الأميركية). ومن المؤكد ان زيارة سيناترا إلى صقلية والمهمة التي قام بها هناك، على علاقة بالأمر، حتى وإن ظل الغموض يحيط بالأمر حتى الآن... ويبدو أنه ليس مرشحا للانقشاع أبدا.
ساعتان على انفراد
إذن، تعود الحكاية إلى شهر أكتوبر/تشرين الأول 1963، يوم وصل سيناترا، محاطا بحراسه وأعوانه إلى باليرمو في جزيرة صقلية، وتوجه من فوره إلى بهو فندق «صولو» الواقع في الوسط العتيق للمدينة. وما إن رآه موظف الاستعلامات حتى ركض إليه مقبلا يديه بكل احترام. وسيناترا، بعدما ملأ الأوراق المطلوبة منه، أعلن بصراحة أمام الصحافيين الذين تجمعوا للحديث إليه أنه لا يحب الصحافة كما أنه لا يحب رجال الشرطة، ثم توجه إلى غرفته وعلى محياه كل امارات الجدية.
بعد ذلك بساعتين عاد إلى بهو الاستقبال، محاطا دائما بحراسه، وسأل مالك الفندق عما اذا كان في وسع الدون جيوزيبي جنكو روسو استقباله. لم يستغرب مالك الفندق هذا الطلب (هو الذي يعرف حقا من هذا الدون وما هي مكانته في «المافيا» والدور الذي يلعبه في تمتين العلاقات بين المافيا الإيطالية والكوزا نوسترا الأميركية). لكنه أجاب بأن الدون خرج وسيعود بعد قليل. بالطبع ابدى سيناترا شيئا من الاستياء، ثم طلب من حراسه أن يخرجوا المصورين والصحافيين من المكان لأنه قرر أن ينتظر الدون جيوزيبي في البهو.
وفي الساعة الواحدة والنصف تماما، ظهر الدون المحترم عند باب البهو والعرق يتصبب منه، وهو محاط بحراسه والابتسامة الهادئة الورعة تعلو شفتيه. على الفور نهض سيناترا واقفا واقترب من الدون ثم خرّ راكعا على ركبتيه ممسكا بيد الدون وقبّل اليد وهو يتمتم «قبلنا الأيادي يا حضرة الدون المحترم». وابتسم الدون ابتسامة عريضة هذه المرة وقال للمغني الأميركي/الايطالي الشهير: «انهض... انت لست غريبا». فنهض سيناترا مبتسما بود قائلا للدون إنه يريد أن يتحدث إليه قليلا، فأشار الدون بيده، وبسرعة، إشارة تعني أن اللقاء انتهى الآن... ثم ترك المغني مدهوشا ومغتاظا وتابع طريقه مع رجاله. ولسوف يقول مالك الفندق لاحقا ان ذلك التصرف أثار اعجابا متزايدا لديه تجاه الدون جيوزيبي - «الذي كان زعيما حقيقيا قليل الكلام، على عكس ذلك الثرثار سيناترا الذي أراد هنا بتواضعه المزيف أن يؤكد حضوره كنجم هوليوودي كبير ناسيا أن الصقليين يعتبرونه «سبيرا تزاريتو» (أي من الهاربين من ايطاليا إلى الفردوس الأميركي الموعود)، وهو تعبير يحمل قدرا من الاحتقار...
غير أن سيناترا لم ييأس من امكان التحدث إلى الدون في الأمر الذي جاء من أجله... وبالفعل تم لقاء جديد بين الرجلين في اليوم التالي، ويبدو أن مكالمة هاتفية جاءت من أميركا إلى الدون كانت هي التي مهدت لسيناترا سبيل اللقاء مع الدون. ولكن من كان المتكلم؟ لا جواب. بل حتى لا جواب عن السؤال الذي يمكن طرحه بصدد الحديث الذي جرى بين سيناترا والدون. كل ما في الأمر أن صحيفة «لي اوري» الايطالية أكدت ان اللقاء حدث في أغريجنتي، وأنه دام ساعتين وان الرجلين كانا خلاله وحدهما. أما فرانك سيناترا فلقد ترك باليرمو في مساء ذلك اليوم نفسه إلى كابري ومنها إلى روما، ومن روما إلى الولايات المتحدة. وبعد شهر واحد تم اغتيال جون كنيدي، صديق سيناترا..
العدد 22 - الجمعة 27 سبتمبر 2002م الموافق 20 رجب 1423هـ