تتيح البرودة الأكاديمية لمن يمتلك ناصيتها أن يرتب بحثه أو مقالته ترتيبا منطقيا مريحا، يضع تعريفاته ويختار ما يرضيه من بينها، ويأخذ بحساب التمايزات والتداخلات بين المفاهيم والعناوين المختلفة ثم يتوجه إلى الفرضية التي يريد إثباتها أو نفيها، فيحرر محل النزاع ويستدعي أدلته فيبطل ويقر منتهيا إلى النقض أو الإبرام.
أما أنا فإني أقرب إلى الفنان، تركيبا وطبعا وشغلا، والفنان لا يلزم نفسه بإتيان البيوت من أبوابها، وفي لحظة رؤية حادة أو مكثفة، ربما منّى نفسه بأن يدخل من ثقب الإبرة إلى الفضاء الرحب... من ثغرة في جدار المنزل، الأمامي أو الخلفي، إلى الخدر حيث تنام المعرفة أو تسهر، يوقظها أو يستلقي إلى جانبها، وربما كسر زجاج النافذة، أو نشر حديدها بأسنانه أو يراعه، كأي سجين يحاول الفرار، ولكنه يفر من الحرية المتأتية عن سعة في الفراغ، إلى سجن ينطوي على فكرة وجدل ومثال، أو لا يستقر ولكنه يستطلع، لعل وعسى، ويقف الفنان حيال بيت المعارف والمسائل متوترا، إلى أن يخيّل إليه أن الثغرة، أو النافذة قد اتسعت لتسع بدنه وقلمه وحبره وقرطاسه وفقاعات دمه، أو أن جسمه قد تضاءل وعاد إلى عناصره الأولى المركزة، بحيث يمكن الدخول براحة أو بوجع.
وأنّى له الراحة! أنّى لي أن ارتاح أنا المتدين وقد عدا علي زميلي في الدين أو شريكي في الإيمان، من موقع الحرفة، ليجفف ماء الحياة في منظومتي وسلوكي الديني! وبلغ الذروة عندما ألزمني بثقافة تنتجها السياسة بكل التباساتها، ومن دون أن يشاركها الثقافي عملية الانتاج، وقد كنا اتفقنا، عندما قرأنا في كتاب واحد، ونحن اثنان، ان الثقافة عندما تنتج سياسة أو تشارك فيها يمكن أن يستقيم المؤمنون على الجادة... لقد أشعرني زميلي وشريكي بالشعور بالغربة عن مكاني وزماني وأهلي، وكان ولا يزال، اذا ما تصدى أسلاف لي أو معاصرون أو آتون معترضين، إلى إعادة الأمور إلى نصابها ومجاريها، أخرجوا من بيت أبيهم، من بيعتهم وجامعهم وجامعتهم وجماعتم، وكأن الدين وصفة صيدلي لا يمر به الزمان ولا يمر بالزمان، علما واكتشافا وكشفا ومكاشفة!! يا شيخنا العزيز، ويا أبانا الذي في الأرض، إنك تصف لي الجنة وتحسنها في نظري ولو كانت كما الدنيا في يدك لما تخليت لي عن شبر واحد منها... ألا ترى إلى كليم الله موسى حائرا أمام عتاب الله له على ما فعله بالراعي الذي عرف ربه معرفة عميقة على غير طريق وطريقة، عندما حيره موسى ففصله فقال له ربه، كما في الحديث القدسي: أنا بعثتك من أجل الوصل لا من أجل الفصل، أنا أنظر إلى الداخل والحال لا إلى الخارج والقال...
وعلى لسان جلال الدين الرومي منظوما:
«تــو بــراي وصــل كـــردن آمــــدي
نـــه بـــراي فصـــل كـــردن آمـــــدي
مـــا درون بــــنــكــــريم وحـــــــال را
ما بــــــرون ننـــكــــــريم وقـــــال را»
وقبلها كان الإنجيل يضج بالتقريع على ورثة الفريسيين الذين يحاصرون ملكوت الله فلا يُدخلون المسافرين اليه ولا يدعونهم يدخلون... وفي مأثوراتنا الأكيدة أن القرآن، حتى القرآن حمّال أوجه، إذن فالعارفون والعالمون والمؤمنون والناس والشجر والحجارة ورمال الصحارى، لا يمكن أن يكونوا عيدان ثقاب، على مقاس واحد وحساسية واحدة...
هل هناك فعلا مقاس واحد بالمطلق؟ في المصنوع فضلا عن المخلوف، إذن أين تذهب آيات الاختلاف في الكون والقرآن؟ ان هذه القسرية في تعليب الايمان والفكر الديني والمتدينين والمؤمنين عموما، لا تأتي إلا من السياسة المسكونة بهاجس الاستحواذ واعادة تكوين الأشياء والناس على مزاجها، تسمي نفسها دينا أولا دين، وقصاراها ان تكون دينا منقوصا بل منقوضا، أو دينا في اللادين، وهنا تكون الكارثة التي شهدنا فصولها وأصولها في حيز واسع من هذه المعمورة، من غروزني إلى البلقان إلى كوسوفو الآن وأفغانستان الخ...
أنّى لي أن أرتاح؟ وقد عدا عليّ زميلي وشريكي في الثقافة، فذهب بها إلى مدلولها الحصري القبلي المدرسي القبيلي، قبالة الدين، وكأن الدين حرفة أو مهنة أو صنعة أو رياضة تهدف إلى تربية العضلات وكمال الجسم! وزاد بأن حصر مصادرها في الصعد الذهنية حتى لو كانت ذهانا، وضعها خارج حركة الحياة والإنسان في الحياة ومن أجلها وأجله، حيث يتجاوز الحراك الثقافي الدائم والدائب والمتجدد، تحصيلا وتوصيلا وسلوكا يوميا وحضاريا، كل التعريفات السكونية، ليضارع الحياة غنى وتنوعا وتوهجا وأعماقا وتضاريس. هنا أجد ديني، إيماني، مفتوحا على كل حقول المعرفة التي تتغاير طرقا وتعرجات وآليات كسب وتحصيل ووصول وتتناظر في مستويات عمقها وتجددها للتكامل في مستوى الغاية والناتج الانساني والابداعي المبتغى والذي لا يتوهم تماميته إلا الناقصون وينقصهم الاحساس بالنقص فيحولون المعارف إلى أنصبة مقفلة تنتظر من يكسر أقفالها من نبي أو شاهد أو شهيد...
وإذا ما كان الاختصاص أو التخصص ضمانة لجدوى المعرفة، فإن التخصصات المتعددة والانتماءات والحساسيات والمشارب المتعددة، اذا ما قامت على مساحات واسعة، من الثقافة الموروثة أو المحصلة أو المستجدة، من شأنها أن تجعل من أخاديد العيش الضيقة نهرا عريضا ينتظم روافده وينظمها على ذاكرة المنبع وشوق الوصول إلى المصب والتماس مع الضفاف في جريانها، تروي ظمأ باحثا عن ريّ وخصب وورد. إني لا أجد ما يماثل الثقافة بعدا عن جمود التعريف الذي لا يجمع ولا يمنع، بل يجمد المتحرك في الساكن ويحوّل الأفكار المفتوحة إلى مفاهيم مغلقة، ويحوّل الماضي إلى دال مطلق والحاضر إلى مدلول في المطلق، بينما يمكن للماضي أن يكون دليلا على الحاضر، كما يمكن، تماما، للحاضر أن يكون دليلا على الماضي، فتسقط دلالات من هنا وهناك، وتتقوم دلالات هنا وهناك، وتترسخ دلالات هنا وهناك...
قلت لا أجد ما يماثل الثقافة إلا الزراعة بلحاظ أنها حوار بين أشياء ومستويات متعددة من التربة ولونها وكثافتها وتركيبها، إلى الرياح ومصدرها واتجاهها وسرعتها، إلى الشمس وحرارتها والقمر ومنازله والندى وكثافته والبرق والرعد والمطر ومواعيده وغزارته، إلى البذرة والبذار والفلاحة والفلاح وآلة الفلاحة وموعدها وأخلاق الفلاحين وأذواقهم وعلاقاتهم اليومية والموسمية، إلى الحصاد والبيدر والسوق والحكمة المختزنة في صدور الفلاحين والعونة فيما بينهم والحنان الذي يؤالف بين الزارع والمزروع والمنزرع...
في هذا التعدد المستوي على سيرورة توحيدية، أنشد مثالي الثقافي الديني، المثاقف المتثاقف، العارف المتعارف، مع الآخر، أيا كان، مؤمنا أو غير مؤمن، مؤمنا قليلا أم كثيرا «وفي رأي أن الإيمان في أصله الوجودي متواطئ بالمعنى الفلسفي أي متساو، وإن كان الفلاسفة مختلفين على أن الوجود متواطئ أو مشكك أي متفاوت قوة وضعفا... وكان أكثرهم على أنه متواطئ».
... الآخر شرطي، أراد أم لم يرد، فإني لابد أن أريد، لا أحد يلزمني، أنا ألتزم، وأنقض التزامي في لحظة غفلة أو شبهة، ثم أعود إليه... إيمانا بأن التوحيد يقتضي الذهاب والسفر إلى الواحد من المتعدد، لأنه ولا واحد يختزل المطلق الواحد، ولا شهود يختزل الغيب، كل شهود هو ملمح من ملامح الغيب، والغيب ملزم، وهنا أفارق الملحد الذي لا يلتزم، ولكن معرفة الغيب متعددة، فما مقدار الإلزام فيها؟ هذه هي الإشكالية الخالدة... هذا والواحد الأحد منه يصدر المؤمن إلى المتعدد، الذي يصير إلى الواحد ويعيد إلى الواحد... وهنا صيرورتنا المعرفة التي لا تنقطع وهنا عودنا الدائم إلى ما ننساه ولا ينسانا.
«إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار» آل عمران 190-191، من المتكثر إلى الواحد، ومن الواحد إلى الإقرار بالوحدانية ومنه إلى المتعدد... هل خلق الله الإنسان على صورته؟ يحلو لي أن أوافق من قال: بأن الله هو صورتنا، صورة الكون، لا تطابقها، بل تفيض الذات المقدسة عن الكون بمساحة نوعية هائلة من الغيب الجميل والسر الذي لا يُنهتك... ليست الأرض مضلّة ولا السماء مظلّة... اليمن مضلّة والشمال مضلّة والطريق الوسطى هي الجادة، والشكوى لغير الله مذلّة
العدد 35 - الخميس 10 أكتوبر 2002م الموافق 03 شعبان 1423هـ