العدد 35 - الخميس 10 أكتوبر 2002م الموافق 03 شعبان 1423هـ

المسبحة

في شارع خلفي من منطقة الحمراء في بيروت يسترخي بضعة رجال على مقاعد واطئة، وخلفهم جدران أشبه بالفترينات بما حملت من مسابح تعددت احجامها وألوانها ومستوياتها.

هؤلاء تجار مسابح، ومصلحو اعطال حين تتعطل مسبحة أثيرة على صاحبها.

وبحكم ما يكتنف عالم المسابح من غموض، ولأن لحرفتهم تقنياتها ومعاييرها، يتحولون إلى شخصيات نمطية، وتصبح احاديثهم بديهيات، حتى بما تحفل به من أساطير، فمن ذا يناقش منهم خبرهم المتداول عن ان «سيدنا نوح، عليه السلام، كان يقتني مسبحة»، فيعرض الخبر على معياري الجرح والتعديل؟!.

يختلط التاريخ بالأسطورة عند تجار المسابح هؤلاء، فتدرك أن ضالتك التاريخية العلمية ليست عندهم. غير انك لا تستغني - بحال - عن رأيهم الذي لا يخطئ في تقدير قيمة مسبحة ونقد اصليها وزائفها، وما كان نتاج عمل يدوي أو كان صنع آلة، إنهم نقاد بارعون يمارسون «الجهبذة» باقتدار.

في مدن عربية وإسلامية اخرى تجد امثال هؤلاء الخبراء بشئون المسابح، فمحترفاتهم ومتاجرهم الصغيرة قائمة في الاسواق الشعبية الثابتة، وفي الاسواق الاسبوعية... زبائنهم هواة اثرياء يقتنون فترينات حافلة بالمسابح الضخمة المصنوعة من الماس واللؤلؤ والمرجان واليسْر والفيروز، وهواة فقراء لا يأنفون اقتناء المسابح المتواضعة المصنوعة من زجاج أو حجارة أو نوى زيتون.

وعندنا ان استعمال المسبحة في التسبيح لله عز وجل لا يختلف في مرماه عند المسلمين عنه عند اليهود والمسيحيين. ونحن نلاحظ ان التسبيح مئة مرة عند اليهود يشبه التسبيح مئة مرة عند المسلمين الذين وجدوا ان العدد مئة يطابق عدد أسماء الله الحسنى.

ولقد مر زمن كانت المسبحة فيه غير مستحبة عند علماء المسلمين. ومصداقا لذلك ينقل المستشرق السويسري 'آدم متز' من مراجعه ما يفهم منه ان المسبحة كانت من اهبة النساء لا اهبة الرجال، حتى شكك بعضهم في امانة العالِم الذي يستعمل مسبحة: «قال الأصمعي لخلف الاحمر: اما ترى ما جاء به ابن دأب من الحجاز والشوكري من الكوفة؟. فأجابه بما يحط من قدر علمهما، بأن قال: إنما يروي لهؤلاء من يقول: قالت ستي، ويدعو ربه من دفتر، ويسبح بالحصى، ويحلف بحياة المصحف، ويدع 'حدّثنا' و'أخبرنا'، ويقول: 'أكلنا وشربنا'. «آدم متز: «الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري» :2:113.

ونحن نستنتج من ذلك ان سلك الخرزات في خيط على هيئة المسبحة المعروفة لم يكن شائعا على نطاق واسع بدليل اعتماد المصلين آنذاك على الحصى، والثاني ان كراهة التسبيح بالحصى ارتبطت بكراهة القعود والكسل ولو في مسجد. وهذا ما يفسر عندنا ما نقله آدم متز عن رسالة القشيري من ان العلماء لم يحتفلوا بالمسبحة بين القرنين الثالث والخامس الهجريين، إذ «كان حظ السبحة من قلة التقدير من جانب العلماء والمثقفين في القرن الثالث الهجري اقل من حظ الذكر نفسه، فكانت لا ترى إلا في ايدي النساء أو مدعي الصلاح. وقد رأى احد الصوفية في يد الجنيد سيد الصوفية «المتوفى العام 297 /909» سبحة، فقال له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟» ثم ينقل متز عن طبقات السبكي «أن السبحة تذكر باعتبارها من أهبة النساء الصوفيات في القرن الخامس الهجري» «المصدر نفسه، ص 166 - 177».

ولأمر ما، يتردد ذكر المسبحة مقترنا بذكر النساء والمتصوفة، فعلاوة على ما تقدم يضيف آدم متز «أن احد العلماء الزهاد دخل خراسان، فخرج اهلها بنسائهم وأولادهم يمسحون اردانه، ويأخذون تراب نعليه ويستشفون به وخرج إليه صوفيات البلد بمسابحهن وألقينها اليه، وكان قصدهن ان يلمسها فتحصل لهن البركة»« 1: 321 - 322، وقد نقله عن طبقات السبكي، ج3، ص 91».

وعلى أية حال لا يشكل هذا التاريخ جزءا من ثقافة الحاج رياض حمزة، الجنوبي المقيم في بيروت، وحرفته صنع المسابح واصلاحها والاتجار بها. إنه يخلط الواقع بالاسطورة، كغيره ممن يزاولون حرفته، فيرى ان المسبحة «موجودة منذ آدم وحواء، وسيدنا نوح عليه السلام كان يحمل مسبحة!».

ويفسر الحاج رياض اختلاف اعداد خرزات المسابح، بأن «ذات المئة تعادل اسماء الله الحسنى، وان ذات الثلاث والثلاثين كانت لليهود، ثم جاء السيد المسيح عليه السلام فكانت للمسيحيين مسبحة تعادل خرزاتها سني عمره وهي ست وستون».

نذهب مباشرة إلى تقنيات حرفته، وإلى مادة المسبحة؛ فهذه مسألة يمكن الركون إليها... يقول إن أقسام المسبحة: الخرزات والشاهد والمئذنة والشرابة، وإنها تصنع من الحجارة الكريمة على اختلافها: الماس واليسْر والبان زهر واللؤلؤ والمرجان وغير ذلك.

يضيف: إن اليسر مستحب كثيرا عند الهواة، وهو يرصع بالفضة أو القصدير أو الألومنيوم، وأشهر المرصعين وأبرعهم حرفيو اليمن. ويقول إنه يعرف شخصا يملك مسبحة من الماس تقدر بملايين الدولارات، وإن بعض الهواة من غير الميسورين «ربما قطع اللقمة عن أولاده وعن نفسه ليشتري مسبحة!».

- ولكن أكثر المسابح اليوم يصنع آليا، وبينها مسابح من زجاج.

القيمة الحقيقية تبقى للمسبحة المصنوعة يدويا، ونحن نعرفها ونميزها من الآلي... لقد أساءت إلى المسابح كثرة المعامل في البلدان العربية وغير العربية. فقد صرنا نرى الرديء الذي لا يكلف كثيرا ومع ذلك يباع بالكثير.

- هل صحيح أن المسبحة تريح الأعصاب؟

طبعا... وأنا شخصيا أريح أعصابي وأتحرر من غضبي عندما أنزل مسابحي الفخمة من فترينتها فأتأملها وأسبح بها.

- يتردد كثيرا أن المسبحة عرضة للسرقة «البريئة» وأن السارقين يبررون سرقاتهم.

السرقة سرقة، وهي غير جائزة في كل الأحوال... وغريب أن يفتي البعض فيقولون إن سرقة المسبحة حلال... هذه فتوى بشر، والحرامي حرامي إلى يوم الدين.

المسبحة وسيلة من وسائل العبادة، مستحبة، وقد يخرج بها الإنسان عن وظيفتها هذه، فيبتذلها. ولذك فنحن أمام ضربين من المسابح... وهي إلى جانب ذلك تحفة يبذل فيها المال الكثير أحيانا. والثابت أن تصنيعها مستمر، فهو ليس بين الحرف الآيلة إلى زوال، بحكم صلتها بالعبادة أولا، ولأنها تحفة ثمينة ثانيا.

فقل مع المتعبدين: سبحان الله... وقل مع الهواة: ما شاء الله

العدد 35 - الخميس 10 أكتوبر 2002م الموافق 03 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً