يقع المسجد الكبير أو مسجد باريس، في وسط العاصمة الفرنسية بين حديقة النباتات وجامعة السوربون، ويستقبل هذا المبنى منذ ثمانين عاما المسلمين المقيمين في منطقة باريس والأجانب والسياح من مناطق متنوعة. شيّد في حاضرة إسلامية صغيرة يجد فيها البعض طمأنينة وألفة، والبعض الآخر احساسا طيبا بالتغرب.
وافقت الحكومة الفرنسية على فكرة تشييد مسجد في باريس انطلاقا من مشروع قانون أعده العام 1920 وزير الأشغال العامة وعضو مجلس الشيوخ النائب ادوار هريو خلال الحرب العالمية الأولى. ومنحت آنذاك سلفة لمؤسسة الأوقاف الإسلامية «لبناء معهد إسلامي في باريس». ولزم ان يمثل هذا الصرح الذي شيد تكريما لذكرى 100 ألف قتيل مسلم سقطوا خلال الحرب، حيزا للعبادة ومرجعا ثقافيا للمسلمين الفرنسيين والأجانب في المدينة، ورمزا للصداقة بين فرنسا والإسلام. وقدمت مدينة باريس قطعة أرض مساحتها 7500 متر مربع مكان مستشفى «لابيتيي» السابقة في وسط الحي اللاتيني. صمم المبنى المعماري الفرنسي موريس مانتو، وبوشر العمل به العام 1922 وشارك فيه 450 حرفيا قدموا من الغرب، إلى ان دشن المعهد الإسلامي لمسجد باريس الكبير العام 1926.
ومنذ 76 عاما، لم يطرأ أي تغيير على المبنى الذي شيد بحسب الطراز الأندلسي، وعلته مئذنة ترتفع إلى 33م تذكر بمأذنة مسجد قرطبة. كما تبدو باحته الداخلية المزينة بالرخام مستوحاه من قصر الحمراء في غرناطة. يتمتع الناظر بدقة العمل في هذا الحيز خصوصا في فصل الصيف اذ تزهر الورود في وسط فسيفساء من الرخام متعدد الألوان. وتوجد بوابة نحتت على شكل نبات أوكاليبتوس تؤدي إلى قاعة الشرف المحاذية لقاعة الصلاة بحيث نجد قطعا حرفية رائعة من سجاد عجمي وأثاث خشبي صنع من أرز لبنان، ونحاسيات من المغرب العربي وثريات من الحديد المجدول صنعت في فاس. يتمتع الزائر بهذه المناظر الرائعة التي تدعو للتأمل في هذا المكان الذي أعد في الأصل كحيز ثقافي. وقد ظل المعهد أمينا لمهمته الأولى، ففضلا عن قاعة الصلاة التي يمكنها استيعاب حوالي 500 مصل، تعرض نشاطات تربوية ودينية ذات صلة بالإسلام منها: دروس تعليم اللغة العربية للأطفال والكبار، ومؤتمرات، وعلوم إسلامية، وفيه مكتبة ومعهد لإعداد الأئمة. يود مسجد باريس (المركز المؤسس للإسلام في فرنسا) نشر مبادئ التسامح والسلام واحترام قيم الجمهورية، بحسب تصريح إمامه دليل بوبكر. وهو يجسد اليوم زواجا ناجحا مع الثقافة الفرنسية.
وقد انسجم في هذا المكان البعدان الروحي والزمني بحسب التقليد الإسلامي، وانفصلت عن قاعة الصلاة وعن القاعات المجاورة لها، المحلات التجارية اذ نجد صالون شاي بالنعناع ومطعما وحماما وسوقا صغيرة. يؤم المكان جمهور متنوع طيلة العام وتزداد الوفود خلال مواسم الصيف، فهناك السياح الفرنسيون والأجانب كما سكان منطقة باريس الذين يأتون لتناول وجبة طعام وبعض الحلوى العربية، أو للقاء الأصدقاء تحت ظلال زيتونة وتينتين في حديقة المسجد. هناك أيضا بعض الطلاب المواظبين الذين يأتون خلال الأسبوع لمراجعة دروسهم في جو من الهدوء، قبل الالتحاق بجامعاتهم المحاذية. تنظم أيضا معارض كصلة وصل بين الحرمين على أطراف الباحة وتتيح للزائرين إمكان التعرف على بعض ميزات الفن الإسلامي مثل روائع الخط الفارسي المعاصر التي نظمت أخيرا
العدد 63 - الخميس 07 نوفمبر 2002م الموافق 02 رمضان 1423هـ
الله يبارك في صاحب المقال