أن تكون هنالك حال من المثاقفة بين الخطابات الفكرية، والأطروحات العلمية، فتلك حالٌ صحية من شأنها أن تخلق بيئة معرفية حقيقية، لها القدرة على إنتاج خطابها ونقده في الوقت ذاته، لأنها تحمل بذرة الشك الذاتي أو ما يسمى بـ «الشك المقدس» في داخلها. بمعنى عدم ركونها لمعرفتها الآنية واقتصارها على ما هو كائن وحاصل. وهذه الحال من «الشك المقدس» تعتبر مرتبة أعلى وأعمق من حال التثاقف العادي بين الأطروحات والأفكار المجردة.
ربما أن نصل لحال من هذا «الشك المقدس» يُعد أمرا متعسرا، كحال اجتماعية ومعرفية عامة يمارسها المجتمع تجاه خطاباته وأفكاره. ولعله يُقنع في الوقت الحاضر بحال من التثاقف والنقد بين الأفكار، تجعل هنالك مجالا وفسحة للتنوع وحرية الرأي، وتربي سلوكيات وذهنيات الناس على التعدد وقبوله كطبيعة بشرية جُبل عليها البشر، من دون أن يلغي أحد الآخر، طالما كان ذلك مرتكزا على أسس معرفية بحتة، وطالما كان الناقد للأفكار ممتلكا لأدوات النقد وله القدرة على إعمالها من دون أن يقع في أخطاء فاضحة.
من هنا كان لزاما على من يمارس النقد، أن يمتلك الحد الأدنى من أدواته، متكئا على معرفته، مبتعدا عن النقد الخطابي أو الأيديولوجي الفاقع، باحثا عن المعرفة والمعرفة فقط، بعيدا عن سطوة الأسماء، وما بدواخل الإنسان من ميول وذوقيات وإسقاطات ذاتوية، بعيدة كل البعد عن المعرفة.
هذا التحلل من ربقة وسطوة الأسماء، والقراءات المسبقة، والخطابية النقدانوية، هو المعضل ذاته الذي لم يتمكن من التحرر منه يوسف الأقزم، في نقده عبدالخالق الجنبي، في مقاله «الجنبي ليس باحثا، وما قاله عن قبر الأوجام من قبيل (خالف تعرف)». فان يبدأ الناقد خطابه النقدي مشككا في النيات، ومتهكما وساخرا بقوله: «لقد هزلت حتى بان من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس»، فتلك عثرة تجعل النقد من بداياته واقعا تحت سطوة الخطابية وما تحيل له من سطحية وعدم عمق معرفي، دالة بذلك على قليل علم ودراية، كون الأستاذ الأقزم يشير للجنبي باستخفاف متسائلا عن صفته البحثية والأدبية، متكئا على عدم معرفته بالجنبي وعدم سماعه به، لينفي عنه صفتا الباحث والأديب، مستغربا أن يمنح صفة الباحث قبالة العلامة الشيخ فرج العمران، الذي يذهب لكون قبر الأوجام هو للنبي اليسع، فيما رأي الجنبي أنه لرئاب الشني نبي عبد القيس.
عندما يُقرأ مضمر نقد الأقزم للجنبي، نراه متلبسا نسقه الاجتماعي، متأثرا به من دون أن يشعر، مدافعا عن قيم السائد ضد من يتجاوزها، حتى لو اضطره ذلك أن يسلب الناس حقوقهم المعنوية. فأن يبرز رأي لشاب من الجيل الجديد، لا يمتلك صفة «عالم دين»، يغاير فيه رأي آخر، بل ينقضه بدليل علمي يتكئ عليه، فتلك مسألة لا يرتضيها النسق المهيمن، بل تعتبر تجاوزا وخرقا لقيمة مهمة من قيمه. فالكلمة هي كلمة «الشيخ» لا «الأفندي»، والمعرفة تأخذ من «رجل الدين» لا «المثقف»، و«رجل الدين» له من المعرفة والإحاطة ما ليس لدى الإنسان العادي مهما بلغ، لأنه الفقيه والمؤرخ والباحث... والقائمة تمتد لتشمل حقولا أخرى. لذا كان نقد الأقزم مخالفا للصواب، بل غارقا في جلد «الذات المعرفية» للشاب والمثقف، محتكرا إياها لـ «العلامة» من دون سواه، ممارسا اضطهادا ذاتيا على شخصه من دون أن يعطي للعقل مساحته من فعلي الحرية والتفكير، جاعلا من العقل تابعا لذات بشرية أخرى، لا تمتاز عن باقي الذوات بأي ميزة، سوى ما يعطيها الناس العاديون من هالة وقدسية صانعين منها «مقدسا» لا يمكن خرقه أو تجاوزه، وهو ذات النسق الذي يعيد إنتاج قيم «القبيلة»، و«القطب الأوحد» صاحب الكلمة الفصل دون سواه، والنسق ذاته الذي يحتكر المعرفة لدى فئة «مصطفاة» من دون سواها. في الوقت الذي يعتمد فيه النقد العلمي على التحرر من هيمنة جميع هذه الأنساق، منقادا للعقل والدليل من دون سواهما.
إن رجلا كالعلامة الشيخ فرج العمرآن القطيفي، إنسان تقي وورع، لكنه ليس بالباحث التاريخي المتخصص الذي لا يُنقض رأيه، وكتابه «الأزهار الأرجية» هو كتاب أشبه بـ «الكشكول» الموسع، قام فيه العمرآن بجهد تجميعي أكثر منه بحثي، جمع فيه الكثير من الحكايا والأخبار والقضايا التاريخية والعلمية، من دون أن يخضعها بكلها للنقد والتمحيص. لذا من حق أي باحث يمتلك أدواته البحثية أن يناقش آراء العمرآن ويدحضها إن قام الدليل على خلافها، والجنبي باحث وأديب له اشتغالاته البحثية والأدبية والشعرية، وعدم معرفة الأقزم به لا تعني عدم قدرته، فعدم علم المرء بالشيء لا يعني عدمه
العدد 63 - الخميس 07 نوفمبر 2002م الموافق 02 رمضان 1423هـ