العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ

هرم مقلوب للفساد

الهرم شكل هندسي له قاعدة عريضة وقمة مدببة، ويمكن زيادة مساحة القاعدة لتستوعب ما شئت من حجر أو بشر عن طريق تغيير ضلع القاعدة نفسه، وأما القمة فمدببة ولا تستوعب إلا شيئا واحدا حَجَرة أو فردا. ومن اشهر الاشكال الهرمية اهرامات مصر التي اصبحت مزار السائحين ومصدر رزق حلال لاهل الكنانة. وهناك هرم مانسلو المشهور خصوصا عند علماء الاجتماع والعلوم الانسانية والذي يتدرج بالرغائب البشرية من ادناها وهي الرغائب الاساسية الفطرية وموضعها القاعدة إلى اعلاها وتشمل الرغائب الشخصية المعقدة التي تتموضع في القمة.

وما سأتحدث عنه ربما يكون مفهوما جديدا هو هرم الفساد فهو حسب علمي المتواضع من اختراع مخيلتي المريضة (عند البعض) على رغم أن معطياته ومكوناته ومحتوياته وآثاره وابطاله اشياء على ارض الواقع ومحسوسة لا تخطؤها العين المجردة، ولا ينفك بعض إخواننا الصحافيين بالتذكير بها بين الفينة والاخرى، وكذلك جمعية الشفافية. فربما ساعدتني هذه التذكيرات في التأكد من عدم ورود مفهوم الهرم الفسادي في الادبيات العلمية والاقتصادية لكي اتمكن من تسجيل براءة اختراعه، طالما ان طرفها (اي الجمعية) مغضوض الان عما يجري بداخل وعلى قمة الهرم الذي سأتحدث عنه.

الفساد موجود قبل نزول آدم. والدليل هو التحفظ الشهير الذي سجلته الملائكمة على مشيئة الخالق العزيز بخق لآدم حين تساءلت «تجعل فيها من يفسد فيها». فالفساد مكنون بشري تماما كالصلاح. ولا غرو فقد تم تفعيله على الارض وتصاعد في بلادنا بعد حل المجلس الوطني. قبلها كان يسود المجتمع عرف وتقليدي بسيط لكنه كان فعالا ومؤنسنا في ذات الوقت، وهو «المعروف». يكفي ان يلتمس احد ما معروفا فلن يعدم ان يجد من يقدم له ذلك المعروف دونما مقابل. مع «تبنيد» المجلس الذي سبقه بزمن قصير نسبيا ارتفاع اسعار النفط، ارتفعت الطموحات الشخصية في وجود وفرة في المال والعطاءات، فارتفعت العمولات، وتأسست ثقافة جديدة (ثقافة الفساد) ما لبثت ان عمت كل قطاعات الدولة والمجتمع، وارتفعت بذلك من قائمة الاخلاق الحميدة صفة اجتماعية حميدة هي «المعروف»، وحل محلها مبدأ اقتصادي رأسمالي هام: «حك ظهري عشان احك ظهرك».

ما كان هذا ليحدث لولا ان الانسان يتعهد بسقايتها ورعايتها وحمايتها وصونها من غوائل الخلق الحميدة وغدا الفاسد والافساد عناوين للشطارة والذكاء والنجاح العملي والاجتماعي، ووسيلة لا تتطلب إلا مؤهلا واحدا وبسيطا هو القدرة على الاصابة بالعدوى.

كان من لزوم البقاء والاستمرار إفشاء مرض الفساد بحيث يضرب جذوره في قاع المجتمع وصولا إلى منتهاه. فتكونت في قاعدة الهرم طبقة من الكتبة البسطاء والمراسلين المعدمين تسلّك الامور باتفه العمولات، وشكلت هذه الطبقة العتب الاولى في سلم هرم الفساد. أما العتبة الثاني فقد استوعبت بعض القائمين على الوظائف الاشرافية المتوسطة يليها في العتبة الثالثة البعض من طبقة بعض المتنفذين .

لا يعني هذا ان طاعون الفساد اصاب كل موظفي الدولة بقطاعاتها المختلفة، كما لا يعني هذا ان المؤسسات الاخرى كانت محصنة وممتنعة على الاصابة بالوباء. وما يجب تأكيده ان النفوس الشريفة كانت موجودة في كل مكان وهي مازالت تشكل الغالب الاعم، كما انها مازالت تقوم بما هو متاح لها وهو قليل، وهي قليلة الحيلة في وجه الوباء ليبقى على رأس الهرم.

البحرين - عبدالأمير الليث

العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً