ليس هنا مجال للشك في ان اروع ما يمكن ان تمتلك وتفخر وتعتز به البلدان هو انجالها الوطنيون. وفي واحدة من مؤلفاته - في معرض فلسفته عن الحب حيال الجمال - عظّم أفلاطون لفينسكي ومجّد المحبين للمعرفة، على هذا النحو: «فقط الحب حيال الجمال، الروعة والابداع، هو من يبصر النظر على الجمال، وبإدراك المعرفة مثل الحب فهذا يعني المعرفة الحقيقية الاصيلة. في معارفهم العرافون (العلماء)، كما لو انهم يدخلون في قفص الزواج مع ما لديهم (من علم ومعرفة)، ومن هذا الزواج يحدث النسل او الذرية الحسنة، التي تنعت او تسمى لدى الناس بالعلوم، الفنون او المؤلفات. والمحب هو في كل زمان وحين، نابغة وعبقري، كما لو انه يكتشف في متاع حبه ذلك، كل ما يخفى على غير المحبين. فيما الساذج، (ضيق التفكير والعقل الذي لا يهتم إلا بالماديات)، يسخر من المحب. بيد ان هذا بحد ذاته ليس إلا برهانا قاطعا على عدمية وسوء كفاءة السذج. المبدع الخالق في أي حقل او مجال، (العلم والفن والادب والنشاطات الاجتماعية - السياسية)، هو على الدوام - يعني المحب - هو فقط من تتفتح له افكار جديدة وعصرية بما يريد لها هو تجسيدها في الحياة».
وها هم «المحبون» يسجون على عتبات اوطانهم، امتعة متروكة ومهملة ومنسية بمشاعر واحاسيس معبرة بعمق عن عن الظلم والجور والغبن في القسمة. فهم بالفطرة، منذ الطفولة، «مولعون بحب العلم»، كرسوا له خير سنوات حياتهم، وقضموا نقش احجاره وضلعوا على قطعه وصقله المدويين وها هم الآن يريدون بكل اشتياق وتعطش ان يعملوا في سبيل وطنهم. في حين بدا احب ما لدينا - وطننا (مملكتنا) - في شكل جديد ومتغير، واضحى في اكثر الملابس جمالا وروعة، وذلك بفضل «ابناء» هذا الوطن، فهم كالعمالقة في الاساطير الاغريقية الذين يرفعون على اكتافهم فلك السموات الجبارة، وثقل التنوير (الوعي) الوطني. هم الذين يجب ان يعيشوا بإجلال واكرام، بينما هم يعيشون في واقع الحال في الشقاء والفقر والضحك والصعلكة، أهذا وضع يليق بهم؟! بيد انهم لا يطمعون في نيل شرف السمعة والعزة او المجد الخالد ابدا، بل يطمحون فقط إلى منح وطنهم المعرفة والخبرة المكتسبة، والاخذ بزمام المبادرة في تبني مثل هذه او تلك المهمات والقضايا، وذلك إلى آخر نفس في الروح، حتى نهاية الأجل، تشبها بشهيد كربلاء (ع) حامل رسالة الحق إذ استطاع ان يحقق مكاسب انسانية كبرى ومبادئ رفيعة وقيما حضارية عليا مازالت تخدم عموم البشرية (وان كان هذا الاخير في رحم العالم المتطاحن والمتعادي، بغزارة عظمى، لأشنع وأرذل وأسفل عصر، عرفته هذه الامة على اختلاف اطيافها ومراحلها وذلك بشهادة التاريخ الانساني في مجمله). بالتالي هم ومن ثم هم فحسب، من ينذر ويلتقط وينهض بمجد هذا الشعب والوطن، لما يحملونه في داخلهم من علو وغيرة وحماسة سخية للوطن، ولا اجل العقول من الخارج تقدر على القيام بشيء من هذا، في حين ظلت قلوبهم الخفاقة مفجوعة بشدة على فقدان وطنهم، نظرا إلى وقوعهم في ظرف منقطع النظير يشعرون من خلاله بالعجز وعدم المقدرة على عمل شيء... فيما هم لا يرغبون، بأي حال من الاحوال، في منح انفسهم لأحد، اذ ان قلوبهم تنتمي إلى هذه الارض الحبيبة، بلد الاجداد والآباء، هذه الارض الطاهرة العفيفة.
وهكذا هم يبحثون بكل حشمة وتواضع على عتبة وطنهم في قنوط وترقب ميئوس منه، بلا أمل في عودة أخرى للتأملات ذاتها والاحلام (شبه الطوبائية) القديمة. ربما يوما ما سيشملهم ويعانقهم وطنهم، تماما مثلما تعانق الام اطفالها وتحتضنهم في صدرها الواسع والحنون، وتأخذ بأيديهم وتضمهم إلى صفوفها!!
البحرين -حسين العلوي
العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ