أحمد الواصل صوت شعري جديد قادم من الرياض، عرفناه مهتما بقضايا الأغنية العربية، محللا لها، ألمعيا في ذلك حين يدنو من منجز الرعيل الأول تحديدا، ومن القامات العاليات. كما عرفناه محاورا جيدا - يمكن مراجعة حواره مع قاسم حداد في موقع حداد الإلكتروني - وعرف نفسه في إصداره الأول «جموع أقنعة لبوابة منفى العاشق» (دار الكنوز الأدبية / 2002) بوصفه صاحب رؤية معينة في التعامل مع النثر بوابة لولوج القصيدة. كما أنه وقع في نهاية ديوانه تحت عنوان «امتنان الفرادة» قائلا: «أزجيه لأحد آلهات ديلمون قاسم حداد مقدرا دفعه - عكسيا - لإصراري على نشر هذا الشعر جراء حماسه لكتابتي النثرية حيث عرضتها عليه وتحيزه لها لكنني تعلمت منه أن أكون متحفزا لشعري قدرما لنثري ...»، وهذا مؤشر على خوضه غمار القص، أو أية كتابة مرسلة أخرى.
ولأن الأغنية إحدى محطاته الأثيرة فقد تسللت بعض موتيفاتها إلى الديوان، وكانت إحدى ملهماته، لإسالة الحبر، وتدوين الآهات العشقية، - همس الصديق خالد الرويعي في أذني قائلا إنه من أفضل من كتب عن خالد الشيخ - كما كانت الصور العابرة محطة وقوف واختمار عنده، ودليلا يشحذ من همته على اجتراح القول، وكذا الحال مع الصورة السينمائية والمعاناة الإنسانية التي تجسدها إحدى الروافد التي تطلق المخيلة للكتابة، وللتحاور الافتراضي ما بين الصورة ذات الإيقاع المركب والمعقد، وبياض الصفحات، يضاف إلى ذلك تجربته الشخصية ولا شك. مجموع هذه الروافد، هو مجموع هذه الأقنعة التي جاءت متباينة الألوان، ومتذبذبة الإيقاع، وغير مستقرة عند صياغة معينة، تخلق هوية واضحة، يمكنها لاحقا أن تؤكد أن هذه البصمة لفلان.
والملمح الرئيسي الذي حاولت ميكانيزمات التجربة ومحركاتها الداخلية المضي نحوه إلى طرق بوابة الشعر التي تصد الكثيرين، الرهان الكبير الذي كرس له أدواته كلها، والذي وجدته متمثلا في محاولات متكررة، تكاد تشكل معلم هذه التجربة الأولى، هو الاقتراب من اللغة ببساطة وعفوية، ومن ثم اللعب في إطارها على تشتيت العلاقات النحوية، والتركيبية، ولم تعتمد تقنيا كما هي العادة في قصائد النثر على تخليق الصور وتكثيفها، لإقامة الإيقاع الخاص عوض الموسيقى التقليدية، وسواء كان الاتكاء على الصورة وتدا تنهض عليه الرؤى الشعرية، أو كانت الإبدالات وتقطيع الأوصال، والاعتماد على البعثرة فالأمر يحمل خطورة على الدوام، إلا للمتمرس الذي عرك وعرف اللعبة جيدا، وراهن بعد ارتحالات وانتقالات على هذا الشكل دون غيره أرضا يحط رحاله الإبداعي فيها.
والواصل، وصل أم لم يصل شحذ عدته، ليخترق بها سقوف القار من الجمل، وحاول - فيما يبدو - محاولات مضنية لإقامة بناء خاص به، وأحكم ممارسة هذه اللعبة أحيانا، فيما بدت بعض القصائد الأخرى غير متماسكة، بل واستحالت مجرد تهويمات وألاعيب في الإرجاء والتأجيل المستمر لإفراز الشحنة الدلالية. ولا نستطيع الجزم بأن هذا العطاء الشعري - أو هذه المحاولة لتحري الدقة - قد استطاعت أن تشيد بناء يمكننا القول معه إن الواصل قد مارس لعبته بحذق، وإنه عرف كيفية إدارة اللعبة. ومن هنا وجدنا أن القصائد التي يكتبها كأثر من آثار مشاهدته فلما سينمائيا معينا، أو استماعه إلى أغنية محددة، أكثر بلاغية وإبلاغية في تسجيل الحال القريبة من مناطق الهيام، بل إن لها صدى بعيدا وأثيرا في النفس، وحتى قبضته اللغوية نجدها قوية بحيث لا تتفلت منه كما هو الواقع في القصائد الأخرى.
لقد أراد الواصل، وفعل الإرادة هنا واضح تماما، أن يجعل من تجربته الأولى فعلا غامضا فاختار لها أن تكون جموع أقنعة، من دون وجود قصيدة تحمل العنوان نفسه - وهي لعبة مألوفة جدا - وقصدية هذا الفعل الغامض، هي إشكالية هذه التجربة، على رغم أنها مكتوبة في فترة معينة لم تتخللها فواصل زمنية - كما هو مشار إليه في الديوان - وأعتقد أن تحري الغموض، والبحث عنه، بل والسعي إليه، يكون أحيانا مجازفة كبيرة، إذ تتوارى مساحات حضور الأنا كذات عاشقة، محبة، كارهة، ناقمة، صارخة، معاتبة، ليحل محلها فعل عقلي مع سبق إصرار، ضد العاطفة، وضد البوح، ومع توسل ألعاب فيها تكلف ومبالغة، وتمثل عبئا حتى على أطروحات من قبيل جماليات التشظي. ولا يعني هذا بالمقابل الاختفاء الكلي لما يمكن عده من احتمالية ولادة شاعر، يهندس القصيدة كما يموضع مشاعره ويهندسها في رؤيته للعالم من حوله.
أخيرا، نقرأ - وهذا نموذج - عن تفاعله مع إحدى الأمهات التي تنتظر ابنها بعد أن ابتلعه البحر، كل سنة، وتستقبل نسائم روحه بالورد:
لن تكذبي: أيتها الوردات إذا الأمهات على شفاه البحر ينتظرن بريق الطفل... الأمهات يبقين لمن يعود إن عاد، ولا أمل... خذن نداكن من عيونهن، فالبحر أعمى الأمهات في اجتراح الانتظار، إذ لا أبناء يعودون، فالله كل شيء لهم...
العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ