العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ

البحرين الثقافية تواجه تحديا مستقبليا لجهة الجدة

الفرق الوحيد الذي يجترئ على ايقاف الناظر في العدد الاستئنافي المختلف لمجلة (البحرين الثقافية)؛ هو الفارق الفني والإخراجي. وهو افتراق مهم على صعيد تسويق المادة الثقافية وإتاحة فرص التداول لها. وقد كان المبدع أنس الشيخ مدعوا بإلحاح أكثر لإجتراح هذه المساهمة، والتي أتاحت له فسحة أرحب لتنفس دمغات فنية تتناسق مع الأداء المعرفي والإسهام الثقافي المطروح في صفحات المجلة.

غير أن الفارق في هذا الافتراق المؤسس جديدا في (البحرين الثقافية) أنه يستدعي ذات الإشكال المرشح لأن يكون العنصر المضاد الكفيل بترسيخ العادات المستحدثة ويدفعها للتراكم وبالتالي التسبب في التعثر مجددا. ولعلّ التأمل في مسببات المأثرة العربية الخاصة باحتجاب المجلات والدوريات الثقافية؛ يمكن أن يحيلنا إلى هذه الحالة من الدوران حول الجديد حتى يُبتذل ويصبح التوقف عنه أمرا حتميا. والتوجس الذي يركب كل من يرصد الإصدارات الثقافية الجديدة لا ينقطع مع أصل المشكلة المرتبط بأزمة الخطاب الثقافي الذي تتولى تقديمه هذه الإصدارات وكونه منقطعا عن الحراك الحقيقي لثقافة المرحلة والمجتمع.

صدر العدد الأول من مجلة البحرين الثقافية في أبريل 1994 لتكون صوتا ثقافيا ترعاه الدولة وتضبط إيقاعه. ومن سوء طالع المجلة أنها انطلقت في هذا السياق التاريخي الذي فرض عليها مؤثرات الخصام السياسي المندلع توّا، فترشحت عليها مصائب الإكراه السياسي ومتطلبات الانصياع للثقافة شبه المدجنة المعممة قسرا، ومن يومها تناوبت مرارا كثيرة على عمل المجلة الثقافي إدارات وسياسات مختلفة، كما بدت - في مفاصل حرجة تالية من عمر المجلة - إشارات كثيرة على وجود منغصات تتآمر لتقطيع مسيرة المجلة وتلجم المحركات الثقافية الفاعلة التي كانت تندس بينها وتسعى لزج خطابات نقدية وثقافية ترتقي بالهبوط الذي كاد يستحكم على المشهد الثقافي البحريني في تسعينات القرن الماضي، فيما يمكن الاستيقاف عند واقعة (استشهاد) مجلة (كلمات) بوصفه الإعلان الجنائزي الأكثر إيلاما والأوضح دلالة على ترهل ثقافة النخبة وانزوائها في شتات لا يحصى. والمؤكد أن متغيرات الواقع الاجتماعي المتسارعة والاختمارات الجدلية في أوساط الطبقة الوسطى البحرينية سوف تكون رافدا أساسيا للتكوين الثقافي الجديد في البلد، ما يعني أن رهانا - يبدو عند البعض استغراقا في الأحلام - معقودا في النخب الشابة المثقفة والتي استطاعت، على تفاوت في الحظوظ، تثبيت أقدامها داخل بعض المناطق الحيوية لإنتاج الثقافة وتأكيدها الانحياز إلى الجديد والجاد في الآن نفسه.

يقترح الإصدار الجديد للبحرين الثقافية إجابات طاغية من التشكيل والفنون الجميلة، وهو انصراف يحتمل معالجة محدّدة لخطاب الثقافة. فالتقدمة الفنية والتشكيلية ليست إطارا أو مزاولة جديدة في الإخراج، وإنما هي اقتراح لتساؤلات الثقافة واشكالاتها. واكتساح هذا الاقتراح يومئ إلى وقوع غير مدرك في خطأ تفاقم المقترح ليبدو خيارا وإجابة مغلقة، وهي البنية المشتركة التي تنبع منها محافز الجمود والتوقف. فإذا كان المقترح التشكيلي في المخاطبة الثقافية يقتصر أمر مداولته وتأويله على النخبة، فإن الإصرار عليه باسراف هو إغلاق لمجلة مطلوب منها أن تسجل انفتاحا على شتّى المقترحات. وذاك فيما يظهر التحدي الذي يواجه تشكيلة التحرير والإخراج خاصة الجديد منها، ويتطلب منها أن تخطو بأدوات الثقافة كلها اختراقا لبعض عاداتها وطيا لبعض آخر من متبنياتها.

وعلى الهامش ثمة أسئلة مثيرة تطرحها اللوحات الفنية المصفوفة بمعية الموضوعات المنشورة، ونمثل هنا بالصورة المنتقاة لمقابلة موضوع الافتتاحية، وهي عمل للإيرانية شيرين نشأت وتمثل يدا لفتاة مرموز عليها نداء (يا قمر بني هاشم) - العباس بن علي بن أبي طالب - وكلمات من الشعر الفارسي بعدم تصديق الناس لنا. هذا الجمع بين الكف ومحتواها الرامز إلى مظلومية العباس يفرز بعضا من الإشارات الخاصة بوضعية المجلة الجديدة والحالة التي تتحرك من خلالها بما فيها من ألم واستباقات محنوية.

افتتاحية رئيس التحرير، مي بنت محمد ال خليفة، جاءت تعريفا لتجربة التقديم الجديدة لأعداد المجلة بجعله منبرا حرا مفتوحا لأقلام المهتمين. وفيما تسترسل مي آل خليفة في خطاب (بلا) و(لا) فإنها تخطّ مسارا ثقافيا للمجلة يجمع بين التراث والحداثة. ويكتب محمد جابر الأنصاري في باب الدراسات موضوعا حول المقدمات الأساسية لخطاب عربي يجمع بين التربية والسياسة والإعلام ويكتب في الباب نفسه المغربي مصطفى الحسناوي حول الصداقة بين ابن حزم ومونتاني. وفي النقد يكتب العراقي علي عبدالأمير قراءة ناقدة لرواية الألماني غونتر غراس (طبل الحياد)، ويستطع المغربي كمال عبداللطيف تجربة مجلة (فكر ونقد) في تعزيز الفكر النقدي المغربي، ويقدّم الليبي سعيد الغانمي ترجمة من كتاب بول دي مان. وفي التاريخ تدور الإسهامات المقدّمة حول البحرين، فهناك موضوع عن إبراهيم العريض والبحرين العام 1861 ومستقبل دلمون. وفي الإضاءة الشعرية يقدّم العراقي علي العلاق مطالعة نقدية لكتاب (ثمالات) لسليمان العيسى. أما الفنون فقد حازت على دراسة للعراقي حميد ياسين عن نضوج المعنى في التبادل الجمالي بين الفنون الإبداعية، وبحث التونسي نجا المهداوي حول الخط وسؤال فنيته، وحوار أجراه الفنان المصري عماد فؤاد مع جورج الهجوري. وفي المراجعات كتب السوري نضال الصالح مراجعة لكتاب (دراسات في الشعر العربي المعاصر في الخليج) ومراجعات أخرى لكتّاب بحرينيين. أما النصوص فجاءت من هـ. إ. بيتس ومليكة الصوطي وأحمد المؤذن وعبدالكريم النملة. وخصّص ملف المجلة لقاسم حداد بإعادة نشر عدد (كتاب في جريدة) المخصّص للشاعر.

إن البداية المرتبكة التي انطلقت منها المجلة قبل سنوات انعكست على أكثر من ملمح فني وإخراجي وسياقي، والعدد الجديد رغم عنفوانه الفني البارز، إلاّ أنه يتلبس بارتباك واضح أيضا في مجال الأيقونات وعناوين الأبواب والفهرسة وطراوة الموضوعات والمقالات. والظن أن هذا الارباك فيه عودة لقلة الإحاطة والاحتياط في المواد المنشورة، وشبيه فعل كهذا العجول الذي يحفر للثقافة خواتيمها المهلكة ويحيلها إلى خطاب براثن عابرة. ويبقى اللجوء إلى قصور هذه الملاحظات على إغشاء تهافتنا على أي إصدار ثقافي، والالتجاء إلى حماسة نبيلة لا نشك فيها تحيط بالمجلة وتدفع بها، عسى أن يكون في العودة جدة وبعض تجدد

العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً