العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ

إشكال المكان والزمان - أولا: مصر

إشكالات النهضة العربية الحديثة

إن بعض الذين كتبوا في النهضة العربية الحديثة كان يهمهم أن يثبتوا أن لبلدهم قصب السبق في انبعاث النهضة هذه في المنطقة. فكانوا من ثم يحاولون البحث عن المحطات القديمة التي يمكن أن تكون نقط الانطلاق.

فبعض المصريين يعيدون أصول النهضة أو جذورها إلى الحملة الفرنسية الأخيرة من القرن الثامن عشر. فهناك تم مجال الاتصال المباشر بين المصريين والفرنسيين، فتعلم الأولون من القادمين معنى الحرية والمساواة، الأمر الذي ساعدهم على السعي لتحقيق هذين الأمرين في بلدهم لاحقا. وهناك المطبعة العربية الأولى التي حملها الفرنسيون إلى مصر فكانت نواة حركة الطباعة العربية هناك ومن ثم في العالم العربي.

وعندنا دعوى الاتصال بالعلماء الفرنسيين الذين قاموا على انشاء المجمع العلمي وادارته. وتأتي بعثة رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا (1242-1247هـ/1826-1831م) متوجة لهذا الدور الأول، ليبدأ الدور الثاني على يده في الترجمة والتأليف وتأسيس مدرسة الالسن والاشراف على أعمالها وما تبع ذلك من ترجمة للكتب الأجنبية في أيام محمد علي.

نتوقف هنا كي نناقش هذه الأمور. والسؤال الذي يطرح نفسه حالا: هو ما الذي أفاده المصريون من الحملة الفرنسية مباشرة؟

1. تعلم أمراء المماليك - وجاء ذلك متأخرا فلم يفيدوا منه - إن سلاح البندقية لا يمكن أن يقاوم المدفع، والتنظيم العسكري الفرنسي كان أمرا أساسيا في الانتصار.

2. ما كان للمصريين أن يتفاهموا مع الفرنسيين وهم لا يعرفون لغتهم أولا، ثم أن الأولين كانوا يعتبرون الآخرين غاصبين فضلا عن أنهم لم يكونوا مسلمين.

3. أنشأ الفرنسيون المجمع العلمي الفرنسي في القاهرة. كان هؤلاء بطبيعة الحال يحبون تعلم اللغة العربية للاطلاع على شئون البلاد ماضيا وحاضرا. وقد انتدب بعض العلماء من الأزهر للقيام بهذه المهمة. وزار الجبرتي المجمع ووصفه وصفا دقيقا. وكان ثمة اتصال بين أعضاء الديوان (الاستشاري) الذي أنشأه نابليون، كما كانت اتصالات فردية بين الفريقين.

ويقيني ان بعض العلماء المصريين عرفوا انه ثمة عالم آخر خارج مصر يختلف تركيبا وتشكيلا وأفكارا عن العالم الذي ألفوه - طلابا وشيوخا واستاذة وما إلى ذلك. وكان في مقدمة هؤلاء الشيخ حسن العطار.

فقد كان هذا الشيخ قد طوف في الشام والاستانة، واتصل ببعض علماء الحملة الفرنسية لما نزلت بمصر، ولغتهم العربية، ورأى بعض مظاهر العلم في دار المجمع العلمي ورأى الفرق كبيرا بين ما في مصر وما عند الفرنسيين.

لكن عَلَمْ النهضة الحديثة في مصر في أواسط القرن الثالث عشر/التاسع عشر كان في رأينا رفاعة الطهطاوي.

ولد رفاعة في صعيد مصر 1216هـ/1801م ودرس في الأزهر، وكان استاذه الشيخ حسن العطار. وعمل بعد تخرجه مدرسا في الأزهر وخدم إماما لوحدات من جيش محمد علي. وفي سنة 1242هـ/1826م اختير إماما للبعثة العلمية إلى فرنسا. وهذه البعثة تعرف ببعثة الافندية. كان الغرض من ارسال هؤلاء إلى فرنسا - ولم يكونوا الوحيدين الذي أرسلهم محمد علي باشا إلى أوروبا - وذلك بقصد التعلم ليعودوا أفرادا نافعين لخدمة مخططاته ومشاريعه المختلفة.

نصح الشيخ العطار تلميذه أن يتنبه لكل شيء يراه ويتعلم من كل شيء تصل اليه يده وأن يدوّن أخبار رحلته كاملة. وقد بدأ رفاعة بذلك لما غادرت السفينة ميناء الاسكندرية واستمر على ذلك حتى يوم عودته. وهذه الأخبار كلها مدونة في «تخليص الأبريز في تلخيص باريز». يقول رفاعة «... وأنطقتها بحثّ ديار الاسلام على البحث عن العلوم البرانية والفنون والصنائع، فإن كمال ذلك ببلاد الافرنج أمر ثابت شائع. والحق أولى أن يتبع. ولعمر الله انني مدة إقامتي بهذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الاسلام منه. واياك أن تجد ما أذكره لك خارجا عن عادتك فيعسر عليك تصديقه... ومن المعلوم أنني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية».

لسنا نستطيع أن نتابع رفاعة الطهطهاوي في سنواته الخمس في هذه الرحلة العلمية، ولكن الرجل، لما عاد الى مصر بدأ العمل في تحقيق برنامجه.

عمل في مناصب متعددة: في الترجمة في مدرسة الطب ومدرسة الطوبجية (المدفعية) ومدرسة الالسن والمدرسة الحربية وقلم الترجمة. ونشرت كتبه الاثني عشر التي حملها من فرنسا مترجمة الى العربية (باستثناء ترجمة كاملة للدستور الفرنسي). لكن عمله لم يقتصر على الترجمة. فقد كتب كتبا مدرسية لتعليم اللغة العربية وسوى ذلك من كتب للتعليم. واهتم بتعليم البنات في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين». ودعا دعوة حارة - وعمل على تنفيذها - إلى نقل العلوم الغربية المفيدة.

وفي الحقيقة فإن عمل رفاعة الطهطاوي لا يمكن أن يوفى حقه إلا في كتاب، ولذلك نكتفي هنا بهذه الاشارة.

لم يكن رفاعة الرجل الوحيد الذي عمل على الترجمة، بل قد ترجمت كتب كثيرة على أيدي سواه، وبعضها كان بإشرافه. القسم الأكبر من الكتب التي ترجمت كان يتناول النواحي الهندسية والعسكرية من جميع جهاتها. ولما كان ضباط الجيش في أيام محمد علي، وهم المفروض أن يفيدوا من هذه الكتب، من الأتراك الذي كانوا يتولون المناصب الأساسية فقد ترجم الأكثر من هذه الكتب الى اللغة التركية. ومن ثم فإن الفائدة الفنية - العلمية ظلت محصورة في فئة محدودة.

وعلى كل لأن هذة الأمور كلها كانت مرتبطة بحاكم مصر فلنذكر أن محمد علي شغل، في الدرجة الأولى، بإعداد جيش قوي لأنه أراد أن يكون حاكما قويا. فكانت الجهود الأساسية توجه نحو هذه الغاية. ثم إن الرجل خاض حروبا كثيرة - في السودان وفي الجزيرة العربية وفي بلاد اليونان. ولما شغل نفسه بالحروب في بلاد الشام والأناضول (1831-1840) كانت المهمة أصعب.

ولما عاد من بلاد الشام، وقد أرغم على ذلك، كانت الأمور قد أخذت في الانحدار فالجيش قُلّص، وآمال محمد علي تحطمت فكان هناك نوع من الارتخاء الذي أرغم الرجل عليه. ومن الطبيعي أن تصاب الشئون العلمية - ترجمة وغير ذلك - بنوع من الاهمال، أدّى إلى التآكل في الشئون العلمية.

وأول اثنين من أسرة محمد علي اللذين توليا السلطة في مصر بعده وهما عباس حلمي الأول (1264-1270هـ/1848-1854م) وسعيد باشا (1270-1280هـ/1854-1863م)، لم تكن لهما اهتمامات علمية وهذا أدى الى توقف يكاد يكون تاما في الحركات الاجتماعية والعلمية.

إن الحركات الفكرية، مهما كان نوعها وأصلها لا تنمو وتتكامل وتنتشر إلا إذا أتيح لها أن تنتشر وتصل إلى هذا المجتمع. ونحن إذا ألقينا نظرة فاحصة على وسائل الانتقال والتواصل لهذه الأفكار في مصر حتى أواسط القرن التاسع عشر لتوصلنا إلى النتائج الآتية:

إن التعليم في مصر كان يسير على أساليب تقليدية نشأت خلال الفترة الممتدة من القرن السابع/الثالث عشر حتى تلك الأيام، وكانت تتصف بالجمود. والأزهر لم يكن فقط المعهد الوحيد لما يسمى الدراسات العالية، بل كان يسيطر على التعليم في مصر عموما عبر المدارس الأزهرية المتوسطة والابتدائية التي كانت منتشرة في مصر.

من الضروري أن نتذكر أن مصر كانت حتى ذلك الوقت قطرا ريفيا في طبيعته وحياته، بمعنى أن المدينة الحقيقية التي كانت مرتع قبول الأفكار وتوليدها لم تكن قد نضجت يومها. القاهرة كانت مدينة تبلغ نحو تسعة قرون من العمر، لكنها في هذه الفترة - في أواسط القرن الثالث عشر/التاسع عشر، كانت قد مر عليها بضعة قرون وهي مسرح خصومات بين أمراء المماليك المتأخرين، أي الذين قويت سلطتهم واشتد نفوذهم بسبب ترهل الحكم العثماني. ومع أنها ظلت مركزا اقتصاديا، وتجاريا في المقام الأول، ونقطة انطلاق لقافلة الحجاج، فإن الأوضاع العلمية كان يسيطر عليها، الأزهر. وحتى التململ الذي حدث في القرن الثامن عشر والذي تحدثنا عنه من قبل كان مقصورا على إحياء العلوم الدينية الاسلامية، وهو أمر طبيعي في المحاولات الأولى للسير الفكري والعلمي في تلك الأزمنة.

وحتى لو وجدت جماعات يمكن أن تتفهم ما كان قد جاء إلى البلاد خلال العقود السابقة للفترة التي نتحدث عنها، فإن توصيلها لم يكن متيسرا إلا في بؤر وجماعات جد محدودة لانعدام سبل النشر والتعميم.

لا ننكر أن بذرة جيدة من المعرفة والآراء الجديدة كانت قد وصلت، ولكنها بدل أن تخرج وتنشر وتينع وتؤتي أكلها، دخلت الأدراج واستقرت فيها.

لما تولى إسماعيل شئون مصر (1280- 1296هـ/ 1863 - 1879م) تبدلت الأوضاع تماما. كان إسماعيل يقول انه يريد أن يجعل مصر جزءا من أوروبا. بعبارة أخرى أن ينقل مصر إلى عصر جديد ويكسوها ثوبا جديدا. ففي أيامه تم فتح قناة السويس (1869) وزاد الاتصال بالغرب - وبفرنسا على الخصوص - زيادة كبرى ومتنوعة، تجاريا وثقافيا، وكثرت الزيارات المتبادلة بين مصر وأوروبا، وانشئت سبل مواصلات حديثة، واستمر الأمر لدى الذين تبعوه. فكانت أن انشئت مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار العلوم: كانت الأولى تعد قضاة شرعيين لهم ثقافة متعددة الأصول، والثانية كانت تعنى في الدرجة الأولى باللغة العربية على أسلوب يتباين مع ما كان السلف الصالح قد درج عليه. وفتحت في مصر مدرسة الحقوق الفرنسية في وقت لاحق فأصبح تدريس الحقوق له طعم خاص جديد، وأصبح للقضاة والمحامين آراء ونظرات جديدة جاءت مع هذه المؤسسة.

واذن فقد توافر للقوم شيء جديد. وكان ثمة مكان وقوم يمكن أن تستوعبهما القاهرة «المدينة» الجديدة. وتوافرت سبل نقل هذه الأفكار وشرحها ونشرها بسبب ظهور الصحافة المصرية التي تطورت بسرعة كبيرة في أواخر القرن التاسع عشر. والصحف هي وسيلة أساسية لنشر الأفكار.

عندها بدأت النهضة الحديثة في مصر. وهي التي أتت أُكلها في العقود الأولى من القرن العشرين. وأنا وقد بدأت أعي الأمور وأتابعها في الكتب والصحف والمجلات المصرية بدءا من أول العقد الثالث من ذلك القرن، اعتبر نفسي شاهدا على ما تبدل في مصر بعد الحرب العالمية الأولى وحتى الحرب العالمية الثانية.

ومن أجمل وأهم مظاهر النهضة الحديثة في مصر، التي تعود إلى مطلع القرن العشرين، انشاء «الجامعة الأهلية» التي بدأ العمل فيها سنة 1912. وقامت الجمعيات المصرية العلمية المتعددة. ولعل تتويج هذه المؤسسات العلمية جاء سنة 1925 لما انشئت جامعة القاهرة.

وإذن فقد توافر نشاط فكري فيه بعض البذور التي كانت خُزنت، فنبتت من جديد، وفيه دفق جديد له مراكز يستقر فيها وينمو ويثمر وله وسائل توصله إلى الناس، الذين كانوا انتقلوا من روح القرية إلى روح المدينة في القاهرة والاسكندرية التي أصبح للمصريين فيهما دور وكذلك المدن المصرية الأخرى الكبيرة. لكن هذه الأمور كلها ظلت بعيدة عن الريف

العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً