التاريخ سجل للحوادث والوقائع وساحة لحركة الافكار، تلك هي حقيقة التاريخ، ولأن الحوادث والوقائع والافكار، توجد في ساحة انسانية واحدة، فإنها تتبادل المؤثرات، فيفعل أحدها بالآخر ويقوم بينهما حوار وصراع وتنافس على البقاء. والسؤال الذي يشغل الفلاسفة والمؤرخين، هو عن موضوع الأصالة، بمعنى الأولوية او الأسبقية، فهل الافكار هي التي تحرك الحوادث والوقائع في التاريخ الانساني، أم ان الحوادث والوقائع هي الرحم الطبيعية لولادة الافكار، وسؤال الاصالة، قديم في الفلسفة، كما هو الامر بالنسبة إلى الوجود والماهية، وعليه انقسم الصف الفلسفي إلى وجوديين وماهويين، أو إلى ماديين وربما «واقعيين» ومثاليين ويعود هذا الانقسام إلى الفلسفة القديمة، لكن السؤال الاكثر رحابة في معرض العلاقة بين الافكار والوقائع والحوادث في الساحة التاريخية كان مع الفيلسوف الالماني هيجل. لماذا نبدأ بهيجل؟ لأن الجدل، قبل فيلسوف الديالكتيك كان صوريا أو ارسطيا بامتياز، وكان قد اكتسب جدل الصورة قوته من مكانة المعلم الاول في تاريخ الفلسفة، والذين ينسبه المؤرخون إلى الواقعية، على رغم اعتماده المنطق الصوري، وهذه الواقعية مكتسبه بالنسبة إلى أرسطو من معارضته الشديدة لنظرية معلمه افلاطون، في المثل كان الجدل الافلاطوني مثاليا يقوم على الانتقال من المعاني إلى المعاني بواسطة المعاني أو كما نقله عنه الفلاسفة المسلمون، «محاكمة القول على القول بالقول». ما الذي اضافة هيجل إلى الجدل الارسطي؟... انه انتقال الوجود من مفهومه الصوري «الوجود بما هو وجود» إلى سياقه التاريخي «الوجود المتحقق في التاريخ» أي تحول الوجود إلى سلسلة من الوقائع والحوادث لكن ادراك هذه الوقائع والحوادث في حركتها التاريخية يحصل على مستوى المنطق داخل الثالوث الهيجلي وهو ُّومَّم - فَُّىُّومصَّم - ََُّّومصَّم ْىفل الطريحة، ونقيضها، والمركب بينهما... على مستوى التاريخ نفسه منظورا إليه كعلم، يقسمه هيجل إلى ثلاثية جديدة كالآتي:
1- التاريخ الاصلي، وهو التاريخ حين يكون المؤرخ شاهدا عليه، يعيش في عصره، ويؤرخ لهذا العصر.
2- التاريخ النظري ، هو التاريخ حين يكون المؤرخ يعيش في عصر آخر، كأن يؤرخ احدنا اليوم لتاريخ العصر العباسي.
3- التاريخ الفليسفي وهو التاريخ الذي تكون فيه الروح أو العقل، متحققة في التاريخ ومتيقنة من نفسها.
مع ان هجيل يبدأ من الوقائع والحوادث، ثم ينتهي إلى الفكر أو «العقل» اراد كارل ماركس ان يقلب الجدل الهيجلي، ويجعله يمشي على قدميه، فيما كان يسير على رأسه. وينسب إلى هيجل المذهب المثالي، مبتعدا فيه عن المذهب المادي أو الواقعي، اي انه مازال يقدم الفكر من ناحية الاصالة والأسبقية على الوقائع والحوادث، فيما تقتفي المادية تقديم الحوادث والوقائع من ناحية الاصالة والاسبقية على الفكر. وبشكل صريح لا لبس فيه...
الواقعية الاسلامية الحديثة لا تذهب إلى حصر نفسها بين الاتجاهين بل تجد مخرجا لائقا، يقوم على التفاعل الحر والتبادل المفيد بين الفكر والحوادث والوقائع، وتجد موضوع الاصالة متحققا في مفهوم الساحة التاريخية، باعتبار أنها خصوصيتها التي يناسبها جدلها الخاص. فقد عرف التاريخ حوادث ووقائع ولدت الافكار الكبرى، وكذلك فعلت هذه الافكار في انتاج الوقائع والحوادث المرتبطة بها اشد الارتباط. ولا يغيب التأثير الارسطي في هذه الواقعية الاسلامية الحديثة مع وجود نقد شهير لمنطق ارسطو، وكذلك لا يغيب الجدل الهيجلي عن ساحتها مع توافر نقد صريح وجدير لهذا الديالكتيك. كما انها تنأى بنفسها عن المادية التاريخية على المستوى النظري ومستوى التطبيق، مع نقد وفير لهذه المادية التاريخية. وإذا كانت المادة النظرية متوافرة في شرح هذه الواقعية، كما في ابحاث محمد حسين طباطبائي ومرتضى مطهري، ومحمد باقر الصدر والمساهمات المتأوجة، هذه الايام، في المباحث الفلسفية المتعلقة بالصدرائية الجديدة «نسبة إلى ملا صدرا وفي مباحث علم الكلام الجديد وكذلك الابحاث التي تتناول مشكلة العقل، ونقده كما نجدها عند محمد عابد الجابري وحسن حنفي، وطه عبدالرحمن، والابحاث التراثية عن العقل والوحي، وكذلك المباحث عن العقل، ودوره في حلقات علم الاصول عند الاصوليين، وفي تطبيقاته الفقهية عند الفقهاء، لكن الناحية المتعلقة بالدراسات التطبيقية، عن علاقة الفكر بالوقائع والحوادث التاريخية نادرة، ولعل المباحث الفقهية، هي المساحة الوحيدة التي اعتنت بهذه الابحاث لارتباطها بأصل علم الفقه في البحث عن مستند نظري مستفاد من المصادر الشرعية حول حوادث ووقائع متحققة في اعمال الانسان وفي حركة التاريخ، لكن هذه التطبيقات، تبقى شديدة الالتصاق بنظامها الفقهي العام. والذي له خصوصيته العلمية الدقيقة. وإذ كان علم الاصول هو الرحاب النظري والمنهجي، للانتاج الفقهي، فهل تكون الصدرائية الجديدة، والعقلانية الرشدية المعاصرة، بوصفها قولا فلسفيا هي الرحاب النظري والمنهجي لعلم الكلام الجديد؟ وهل يمثل هذا المشهد الثقافي العام، في العالم العربي والاسلامي، جوابا عن الاسئلة الفلسفية القديمة، من ناحية أسبقية الفكر على الواقع أو الواقع على الفكر، وعلاقة المادة بالروح والواقعية والمثالية، والوجودية والماهوية، وغيرها من التيارات الكبرى في الفكر الانساني؟
إن دور الحلقة الفلسفية الاسلامية في تاريخ الفكر الانساني يمهد الارض لحركة فكرية معاصرة ثرية وعميقة التأثير، وكذلك لدور متقدم في حوار الحضارات والقيام بمهمة انقاذية بالغة الفائدة. إن عالمنا المعاصر يعاني من مشكلات عدة، تكاثرت مظاهرها مع الربع الاخير من القرن العشرين، وتجد ظواهر مضافة بداية الالفية الثالثة لأن انهيار النظام السياسي - الاجتماعي للفلسفة المادية آذن بسلسة من التصدعات، ستتوالى في مدارس الفلسفات المرتبطة بالفلسفة المادية، وقد تبرز هذه التصدعات بأشكال كثيرة، منها الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والاخلاقي لكنها في الاساس ناتجة عن التصدع الميتافيزيقي في نظامها الفلسفي العام. وإذا ظلت الافكار محافظة على تماسكها النظري حتى بعد انهيار المنظومات المادية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بها، فإن تصدع هذه المنظومات دليل على تهافت الجانب الفكري، لذلك سرعان ما ينكشف مكان التصدع الاساسي، حين يصبح البناء بأكمله مهددا بالانهيار.
نقول ان الحوادث السياسية - الاجتماعية في هذا العالم هي صورة عن واقعه الفكري، المخفي تحت تلك الطبقة من الوعي الانساني، اي انه مكبوت داخل اللاوعي العام، يبقى محافظا على مشكلات الأنا في الشخصية الانسانية، حتى اذا ما كشفت هذه الشخصية أو الانا عن نفسها كان صاحبها في حال عِصاب.
ونحن لا ننتظـر عصاب هذا العالم حتى نبادر إلى انقاذه. لذلك فإن المباحث الفلسفية الاسلامية المعاصرة وحركة التجديد في الكلام، وإن كانت تظهر اجوبة عن اسئلة المشهد الثقافي الاسلامي، فإنها في الواقع مؤهلة لتكون، في الوقت ذاته، أجوبة عن اسئلة المشهد الثقافي العالمي، بكل جدارة وامتياز..
العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ
حنين
انا احب مادة الفلسفة كثيرا وانا متفوقة فيها
حنين
اريد التركيب اي الدمج الرايين