صدرت أخيرا ضمن سلسلة «دراسات استراتيجية» التي يصدرها مركز الدراسات الدولية/ جامعة بغداد دراسة لمنعم العمار حملت عنوان «توازنات الضعف العربية بين المدرك الاستراتيجي واختلالات الاداء». وقد شكلت الدراسة محاولة عميقة لتفسير حالة «الانكشاف العربية» المزمنة منذ أكثر من نصف قرن فضلا عن محاولة البحث عن سبيل للانقاذ. وفيما يلي قراءة لأهم ما أوردته هذه الدراسة.
لم يخف العمار منذ بداية دراسته قناعته باختفاء الفارق النوعي بين مجمل الأوضاع العربية التي سادت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما باتت تنبته الأوضاع العربية الحالية من وقائع... ويعزو الباحث سبب ذلك لما اعتمدته السياسة العربية عبر أكثر من نصف قرن لما يسميه «ضروبا من التكيفات الاستراتيجية» أدت بالنظام الاقليمي العربي لأن يصنع لنفسه «اسلاك اعثار» تعوق سلوكه الجماعي وسلوك اطرافة. وانما ادت بالنظام العربي لان يصبح «نظاما مفتوحا» يتأثر بشروط الأداء الاستراتيجي للقوى الدولية الكبرى. وبما يجعل السياسة العربية بالاجمال تتلون تبعا لها ولما تفرضه من خيارات الجامعة العربية اقرب إلى منتدى.
وفي معرض المحاولة لتفسير «الميكانزم» الذي أدى لعاهات الضعف العربي المستديم، يشير الباحث إلى ان مظاهر التحدي المفروضة قد أوجبت على النخب القيادية العربية العمل على رصف الطريق من اجل اداء فاعل لمقاومة ذلك التحدي. وبناء عليه، فان الأقطار العربية القائدة شرعت بترجمة ذلك «الوجوب باعتماد منطقلات عملية وواقعية تجلت بالاجماع على ضرورة الاعتراف بشرعية الدولة القطرية القائمة والدور الذي تؤديه في تهدئة او تقريض التعارض المستمر ما بين المصلحة القطرية والمصلحة القومية الشاملة كمدخل لبناء معايير عقانية لمؤسسة تدير العلاقات العربية - العربية بعيدا عن المزايدات الايديولوجية في ذات الوقت الذي توفر فيه فن وأسلوب عمل «جديد لبلورة ارادة عربية جماعية. ومع ذلك فإن الاطار المؤسسي للنطام الاقليمي العربي الذي جاء تحت مسمى «الجامعة العربية» كان اقرب إلى «منتدى الدول» منه إلى التنظيم القومي بسبب كون سياسة التوازنات العربية مجرد حالة تمني كذلك. وهذا ما أثبتته سجلات الأداء التنفيذي للالتزامات في السياسة العربية لاسيما تلك المتصلة بقضايا الأمن القومي سواء منها ما يتعلق بالعلاقات العربية العربية أو ما يرتبط بالصراع العربي الصهيوني التوازن في جوهره يهدف إلى الحماية الذاتية.
وحتى يكون الباحث اكثر وضوحا فانه يوضح «ان التوازن مع انه البعد السياسي للأمن فانه ايضا مبدأ حركة فعلية ذات دفع كاف لخلق قواعد سلوكية يؤدي اعتمادها إلى توفير الحماية الذاتية والوقاية الاقليمية». لينتقل بعد ذلك إلى محاولة الكشف عن أسباب ضعف سياسات التوازن في النظام الاقليمي العربي، ويعزوها إلى انشغال النخب الحاكمة في الأفطار العربية بهمومها القطرية وتحسسها لمفرط بالسيادة. غياب القطب القادر على تحديد فروض الفعل القومي واستفحال الخطر الصهيوني وعدم وجود صيغة لضبط التوازن الحاصل فضلا عن الجهد الغربي الذي أخذت قواه تتدخل لطرح سياسات توازن لصالحها ويكون الغرب نفسه طرفا فيها... وقد جاءت فكرة الحزام الشمالي الذي روج لها دلاس ومشروع حلف بغداد العام 1955 ومبدأ ايزنهاور العام 1957 كجزء من الجهد لايجاد سياسات توازن تابعة له في المنطقة القيادة الناصرية فرضت شرط الدولة القائد.
وهنا يشير إلى جهود القيادة الناصرية لصياغة الارادة العربية المستقلة والمؤثرة في مجرى السياسة العربية والدولية لاسيما عندما فرضت تلك القيادة شرط الدولة القائد للنظام الاقليمي العربي، الا ان الكثير من الانظمة العربية عمدت إلى التهويل في اخفاقات التجربة الناصرية.
وكانت نتيجة ذلك بروز حالة من نمط تعدد القوى كان الميزان فيها يميل داخل النظام العربي لصالح الانظمة التقليدية ذات العلاقة التفاعلية مع الغرب وبما عزز من تأثير الاحتراقات الغربية لمعظم التفاعلات في السياسة العربي وتاليا إلى بروز ظاهرة تشابك المصالح المتضاربة بين اطراف النظام الاقليمي العربي سقوط المحرمات العربية مقدمة لسطوة الشرق اوسطيه هذا الواقع اسفرت عنه مجموعة نتائج في مقدمتها سقوط «المحرمات» العربية في ادارة الصراع مع اسرائيل ابتداء من حرب 1973 وصولا إلى اتفاقيات «كامب ديفيد» العام 1978.
وللأسف جاءت بعد ذلك أحداث ايران ومن ثم انفجارالحرب بينها وبين العراق، ليدفعا باتجاه ان تخسر قضية الصراع العربي الصهيوني اولويتها في اجندة العمل العربي المشترك.
وكان لتداعيات زلازل تسعينات القرن الماضي الدولية والاقليمية ان أدت إلى تلاشي خيار بناء توازنات الفعل... لصالح التشبث بتوازنات الضعف والتي كان من مظاهرها سطوة نظام الشرق اوسطية كبديل للنظام العربي مع انه جرت انذاك محاولات لاقامة توازنات فعل ولو في حدود ضيقة الا ان معظم هذه المحاولات قد باءت بالفشل... مثل تحالف دول الطوق للتشبث بالمفاوضات على كل المسارات في آن واحد كما تجلى ذلك في مؤتمر مدريد، الا ان هيمنة المظلة الاميركية على المنطقة والاختراقات التي استطاعت ان تحققها اسرائيل سواء بجهدها او بجهد أميركي لجر الاطراف العربية للمفاوضات الثنائية ومن ثم الاتفاقات الثنائية، والذي ادى بالنتيجة إلى انهيار جيوستراتيجي وتكريس توازنات الضعف التي تعد المدخل لمشهد العجز العربي الفاضح الذي انحط بالكرامة العربية على المستويين الفردي والجماعي إلى ابعد الحدود ومن المؤكد ان هذا المشهد يحفز ارادة الاقطار العربي للبحث عن سبيل الانقاذ. ذلك السبيل المنطلق من ضرورة التوفيق بين الخصوصية القائمة لكل دولة عربية وما تفرضه عليها الالتزامات القومية، ويمكن تلخيص هذه العناصر تحت ثلاثة عناوين رئيسة تلمح للمقدمات الواجب اتباعها لاصلاح الاداء السياسي العربي بما يجعله قادرا على انجاب توازنات عربية خالية من الضعف، وهي:
تجاوز محددات الخلافات التقليدية بين تكتيك الحد الادنى والاقصى، العمل على تحييد المضاعفات السلبية او غير المحسوبة لتداخل الافعال القطرية وساحاتها. الامر الذي يوجب بداية تحقيق ادراك موحد لنطاق عمل النظم القطرية بواقعية كي تكون صلاحياتها مفهومة وقادرة على التأثير في العلاقات العربية - العربية باتجاه ارتقائي لا نكوصي
العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ