العدد 2198 - الخميس 11 سبتمبر 2008م الموافق 10 رمضان 1429هـ

عصفورة... وسط تنينين!

الضباب بدأ يحزم أمتعته ويغادر البلدة بعد أن طردته أشعة الشمس الساخنة، ما عدا بقاياه الكثيفة التي لايزال يتحداها مطوقا الحارة بيتا بيتا، وهو جاثم عليها. وقد بدت كالمهجورة مظلمة وهادئة، فأصحابها مازالوا يغطون في نوم عميق، وأنوار الطرقات بالكاد تضيء لنفسها من شدة كثافة الضباب الذي غطاها باللون الأبيض، ما خلا صياح الديكة بين فترة وأخرى التي سعدت بنور الله... أما العصافير فما عادت تنشد سيمفونيتها الصباحية في وجوده، بل تلعثمت وبقيت محتمية بأعشاشها منذ سماعها أنباء عن همهمات جنود وأصوات عجلات ثقيلة قريبة قد تكون دبابات لانقلاب جديد أو لغزاة.

خطوات العمال والموظفين في الدقائق الأولى من الصباح في هذه البلدة الصغيرة من العالم الثلجي بدت بطيئة مثقلة بالهموم مكرهة لاستقبال يوم بارد جديد. اثنان لاتزال آثار «نشعة» الخمرة عليهما بادية، وهما ينفثان دخان سيجارتيهما في الضباب الكثيف انتظارا للباص الذي سيقلهما إلى الموتى... إذ يعملان في قسم تسليم الجثث بأحد المستشفيات الجورجية وقد استدعيا من إجازتهما.

عسكريان آخران من الاحتياط يندبان حظهما لقلة المعاش، بسبب هبوط سعر الروبل الذي لم يتعاف يوما من ضربات وركلات الدولار، وهما يهمان بركوب باص الأمن... أصحاب الحوانيت باشروا مبكرين فتح أبوابها المتهالكة وقد تجمعوا حول بيان «ساكاشفيلي» من مذياع روسي الصنع أيضا كاد أن يسقط من قوة صوت القصف الجوي العشوائي، إذ أوصاهم بالهدوء والسكينة وعدم التجوال... اثنان منهم يتبادلان الغمز فيما بينهم، قائلين ان هذه البلدة المسالمة التي ندبت جنودها وشبابها الجورجيين لمكافحة الإرهاب في بغداد، بينما هي عاجزة عن أن تكافحه في دارها...ماذا ستفعل الآن؟!

الجورجيون منقسمون وضائعون كانقسام مجلس الأمن عليهم. بعضهم مخدوعون بضعف الروبل، والآخرون مفتتنون بالدولار، وبوعود حلفائهم الأميركان بحياة جديدة في حال انتصرت هي وحلفائها التي لن ترى النصر ولا ترغب في الهزيمة.

لحظات وينقشع بقايا الضباب لتكشف لنا أشعة الشمس عن تنين روسي ضخم تجلى في دبابات وجنود مشاة منتشرين يجوبون الشوارع والأزقة والمدن، بحثا عن المقاومين وهم يدمرون كل مبنى وكل حصن مقاوم يختبئ فيه الجورجيون.

ما هذا؟ دبابات وجنود مدججون بالسلاح وقصف جوي، عادا يتساءلان من جديد: هل هو غزو ام حرب خامسة تتكسر فيها العظام وتتطاير فيها الرؤوس؟ من سيحمينا من الكرملين «التنين الأحمر» في حال أغضبناه وخالفناه؟ وماذا سيفعل لنا البيت الأبيض غير إرساله مؤنا في طائرات ترمي علينا البطانيات والحليب المجفف؟ وقد لا يصلنا شيء إلا وقد شارفت مدته على الانتهاء؟ وهل نحن بحاجة إليه أم بحاجة إلى أرواحنا وإعادة أعمارنا؟ وما فائدة الانفصال وماذا سنجني منه؟

أما الآخر فعقب قائلا: فقر الروس مع سلامتنا ولا جنة الأميركان مع موتنا، والدليل كما فعلت أميركا مع صدام، هكذا إذن المعادلة حيث سنبقى محشورين وسط الدمار والموت، وستبقى جورجيا «عصفورة وسط تنينين»، كلاهما يرغب في قضم جسدها!

مهدي خليل

العدد 2198 - الخميس 11 سبتمبر 2008م الموافق 10 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً