في القراءة المدققة لسيرة علي بن أبي طالب (ع)، تتجلى صورته إماما منذورا لرسالته الإسلامية التي تلقّاها عن النبي الكريم.
فلم يكن حضوره في السلطة ـ خليفة ـ يُمارس دوره الرئاسي المسئول، بل هو ـ قبل السلطة وأثناءها ـ صاحب الرسالة التربوية الكبرى، وهي الرسالة الموجّهة إلى البشرية كافة.
لقد كان المربي الكبير الذي يباشر مهماته مع الجماعة، والأفراد، مع القبائل والشعوب، مع نفسه وأسرته لأنه وهو يُربي الآخرين، كان يتعهد نفسه بالمراقبة، والمحاسبة، على طريق الحق والعدل.
وان القارئ والمتابع ليلمس وهو يدرس سيرة علي بن أبي طالب مظاهر شخصية عظيمة نادرة، في المسجد، وفي ساحات الوغى، وفي ندوات الحوار، وفي البيت، وفي الفكر وفي العمل، وفي التربية، شخصية مجيدة، تشكل مفخرة للعرب أمام الإنسانية، وبالتالي مفخرة الإسلام والمسلمين جميعا.
لقد ابتدأ شعلة، ومات شعلة، وظل في الذاكرة التاريخية شعلة أبدية الاشتعال، والتوهّج، والإنارة. وقد أشار إلى ذلك (العقاد)، وهو في صميم الصواب ذاكرا لقب الإمام الذي خُصَّ به (علي)، إذ قال: «الذي يطلق إذا أطلق فلا ينصرف إلى أحد غيره، بين جميع الأئمة الذين وسموا بهذه السمة من سابقيه ولاحقيه».
وقال: «ذاك هو علي بن أبي طالب كما لقّبه الناس وجرى لقبه على الألسنة، فعرفه به الطفل وهو يسمع أماديحه المنغومة في الطرقات بغير حاجة إلى تسمية أو تعريف».
وأصاب أيضا إذ قال: «خاصية أخرى من خواص الإمامة ينفرد بها علي ولا يُجاريه فيها إمام غيره، وهي اتصاله بكل مذهب من مذاهب الفرق الإسلامية منذ وجدت في صدر الإسلام. فهو مدشّن هذه الفرق أو قطبها الذي تدور عليه. وندرت فرقة في الإسلام لم يكن علي معلما لها منذ نشأتها، أو لم يكن موضوعا لها ومحورا لمباحثها، تقول فيه وتردّ على قائليه، وقد اتصلت الحلقات بينه وبين علماء الكلام والتوحيد، كما اتصلت الحلقات بينه وبين علماء الفقه والشريعة، وعلماء الأدب والبلاغة فهو أستاذ هؤلاء جميعا بالسند الموصول».
ولم يجانب جورج جرداق الصواب حينما يذكر: «الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مفردة لم يرَ لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديما ولا حديثا».
إن نشأته في حضن النبي (ص)، وفي أجواء الوحي، وتشرّبه من ثقافة القرآن، وتتلمذه التام على يد رسول الله (ص)، عوامل حاسمة في تكوين شخصيته المتماسكة، التي لم يدخل عليها طارئ قديم، أو جديد، من خارج الإسلام.
وهو، في جهاده الثابت، كان صورة ناطقة للحق الذي لم يعرف غيره، فجعل معرفته له كفاحا مريرا من أجل إحقاقه، وتربية الناس باتجاه الإقرار به وإقراره.
وما كان ممكنا أن يكون علي بن أبي طالب مدرسة التاريخ في التربية، لولا أنه كان المربي القدوة، الذي شمل الناس بالحكمة الفاعلة.
ذلك لأن علي بن أبي طالب كان في خياره الوحيد حكيما، قائدا، مكافحا، حمل لواء النضال ضد الظلم، ومن أجل سيادة العدل، فقرن الحكمة بالتطبيق، والرأي بالفعالية، لم يخدعه سلطان، ولم تسحبه الحكمة السلبية إلى أجوائها.
إنه العالم، والأديب، والفقيه، والمشرّع، والقائد، والباحث، والمجاهد، والقاضي، والزاهد، والمقاتل، ورجل السلم، الأنموذج في كل شيء، والمتّحد الصفات القولية والفعلية في كل شيء.
لقد اهتدت روحه بالآية العظيمة: (كَبُرَ مَقْتا عند الله أن تقولوا ما لا تَفْعَلون)، فلم تبقَ ثغرة في نفسه تفصل القول عن العمل، والعمل عن القول.
يقول جورج جرداق عن تماسك شخصية علي بن أبي طالب: «وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع حيث مشيت في دروب نهجه وأنّى اتجهت. فإذا الفكرة الأساس التي بنى عليها عهده لهذا الوالي (عهده لمالك الأشتر) هي الفكرة الأساس التي بنى عليها عهده لكل والٍ لا تناقض بين عهدين منهما ولا تضارب، لا في الجذور العامة ولا في الفروع النامية عليها. ثم إنها هي نفس الفكرة الأساس التي بنى عليها خطبته وقوله أمس قبل أن يستخلفه الثائرون، والتي يبني عليها خطبته، وقوله اليوم وقد استخلف، والتي سيبني عليها خطبته غدا في حالة السلم، وبعد غد في يوم الجمل وقد أصبح القتال قاعدة مناوئيه؛ وفي الغد الأبعد في أيام صفّين وقد تألّب عليه أهل الوجاهات، وبعد ذلك في النهروان وبعد النهروان في ساعة مقتله»
العدد 80 - الأحد 24 نوفمبر 2002م الموافق 19 رمضان 1423هـ